الطاقة بطاقة واشنطن الرابحة للحد من النفوذ الإيراني في العراق

بغداد يمكن أن تستفيد من نجاحات السعودية في معالجة مشكلة حرق الغاز المصاحب للانتاج النفط بتجميعه عبر نظام رئيسي للغاز.

بغداد – تسعى بغداد إلى إعادة هيكلة علاقتها مع واشنطن وفقا للمتغيرات في المنطقة، ولمصالحها الأمنية والاقتصادية، وعلى رأس الأولويات التعاون في مجال الطاقة والأمن الذي يخدم أيضا بشكل مباشر أهداف الولايات المتحدة في مواجهة النفوذ الإيراني والصيني، وخلق فرص اقتصادية جديدة، وتقليص المساحات غير الخاضعة للحكم التي يستغلها الجهات المعادية في كثير من الأحيان.

ويواجه العراق تحديات أمنية واقتصادية هائلة بما فيها خطر انتشار العداء بين إيران وإسرائيل، والاعتماد على الغاز الإيراني غير الموثوق به في ظل عدم استغلال الموارد المحلية، والتهديد المستمر من جانب تنظيم داعش، والأوضاع في الجارة سوريا حيث الحكومة الجديدة لم تثبت بعد قدرتها على مواجهة المخاطر الإرهابية.

وتبرز هذه التحديات في وقت تسعى فيه بغداد إلى فك ارتباطها بمهمة التحالف الدولي ضد داعش وإعادة هيكلة علاقتها مع الولايات المتحدة، لذلك تتجه الأنظار نحو الشراكة مع الولايات المتحدة في مبادرات الطاقة والأمن.

لجذب المستثمرين، يجب على العراق إثبات استقراره وأمنه من خلال معالجة المشاكل المزمنة المتمثلة في تدخل  الجهات الخارجية والصراعات الداخلية.

ويرى تقرير لمعهد واشنطن الأميركي، أعدته الباحثتان نعوم رايدان وديفورا مارغولين، أن هذه الشراكة لن تعزز الأهداف العراقية فحسب، بل ستخدم أيضًا أهداف سياسة الرئيس دونالد ترامب، وستحد من النفوذ الإيراني والصيني في العراق، وستوفر المزيد من الفرص الاقتصادية، وستُسهّل جهودًا أوسع نطاقًا لتحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط.

وأحد أهم مجالات التعاون التي تسعى بغداد إلى إقامتها مع واشنطن هو قطاع الطاقة، بما في ذلك الغاز الطبيعي. فالولايات المتحدة هي أكبر منتج للغاز في العالم، وقد ساعدت صادراتها الضخمة من الغاز الطبيعي المسال، أوروبا على استبدال الإمدادات الروسية خلال حرب أوكرانيا. واحتياطيات الغاز العراقية، وهي الثانية عشرة من حيث الحجم في العالم، وهي في الغالب من الغاز المصاحب لإنتاج النفط الخام كمنتج ثانوي، وخاصة في الجنوب. ومع ذلك لا يزال يتم حرق كمية هائلة من هذا الغاز بشكل هدر بدلاً من تجميعها واستخدامها.

ويصنف العراق من بين أسوأ خمس دول في العالم من حيث حرق الغاز؛ ففي عام 2023، كان يحرق 1200 مليون قدم مكعب قياسي يوميًا من الغاز بينما يستورد 1000 قدم مكعب قياسي من إيران. وفي ذلك العام، فقدت شبكة الكهرباء العراقية 5000 ميغاواط بسبب انخفاض الإمدادات الإيرانية، والتي عادة ما تكون غير موثوقة. ويمكن أن تحدث نفس المشكلة هذا العام. والأسوأ من ذلك، أن هذه الواردات معرضة لخطر الانقطاع إلى أجل غير مسمى بسبب تداعيات الصراع الإيراني الإسرائيلي الأخير.

وتأمل بغداد في الوصول إلى  مستوى الصفر من حرق الغاز بحلول عام 2028، إلا أنه من غير الواضح كيف ستوازن بين هذا الهدف وطموحاتها لزيادة إنتاج النفط إلى  أكثر من 6 ملايين برميل يوميًا في وقت لاحق من هذا العقد (العراق هو ثاني أكبر منتج للنفط في منظمة أوبك).

 وفي السنوات الأخيرة، أحرز العراق تقدمًا ثابتًا، وإن كان بطيئًا، في التغلب على التحديات بما في ذلك حرق الغاز، حيث يسعى رئيس الوزراء محمد شياع السوداني إلى استقطاب المزيد من الشركات من الولايات المتحدة ودول أخرى للاستثمار في هذا القطاع. ومع ذلك، لا تزال هناك تحديات فنية وسياسية، بما في ذلك التدخل السياسي والفساد والبيروقراطية، مما تسبب في تأخير المشاريع.

وبدأت بعض مشاريع استخلاص الغاز تتقدم تدريجيًا، بما في ذلك مشروع نمو الغاز المتكامل متعدد المصادر الضخم، الذي تقوده شركة توتال إنرجي الفرنسية. ويشمل هذا المشروع، الذي يجمع أربعة مشاريع في مشروع واحد، تطوير مركز غاز أرطاوي، الذي من المتوقع أن يعالج  600 مليون قدم مكعب قياسي يوميًا من الغاز المصاحب من عدة حقول نفطية في جنوب العراق.

وفي يناير/كانون الثاني أطلقت توتال إنرجي وشركاؤها، شركة نفط البصرة وشركة قطر إنرجي، أعمال بناء أول منشأة لمعالجة الغاز المصاحب من حقل أرطاوي في محافظة البصرة. ومن المتوقع أن تعالج هذه المنشأة، وهي جزء من مشروع نمو الغاز المتكامل متعدد المصادر، 50 مليون قدم مكعب يوميًا  من الغاز المحترق سابقًا، والذي سيُستخدم لاحقًا في توليد الطاقة محليًا.

وفازت شركات صينية ببعض عقود  أعمال بناء مشروع تطوير الغاز العام، كما تشارك بكين في مشاريع غاز رئيسية أخرى في العراق، بما في ذلك محطة معالجة غاز الحلفاية، التي  بدأت عملياتها في يونيو/حزيران 2024. وفي الوقت نفسه، اعتُبرت شركة غاز البصرة، وهي مشروع مشترك بين شركة غاز الجنوب العراقية وشل وميتسوبيشي، أكبر مشروع منفرد للغاز المصاحب في العراق اعتبارًا من العام الماضي، حيث تقوم بمعالجة إنتاج حقول الرميلة وغرب القرنة 1 والزبير، وهي ثلاثة حقول نفطية عملاقة في الجنوب.

مع ذلك، لا يزال قطاع الطاقة العراقي هشًا. ففي مايو/أيار، خسر العراق حوالي 4000 ميغاواط بسبب انخفاض إمدادات الغاز الإيراني، وكذلك بسبب إنهاء واشنطن إعفاءات استيراد الكهرباء الإيرانية في وقت سابق من هذا العام. كل هذه التحديات تدفع بغداد إلى إعطاء الأولوية لحل مشاكل الغاز والكهرباء.

ويتطلب تعزيز التعاون في مجال الطاقة بين الولايات المتحدة والعراق ليس فقط مناخًا استثماريًا إيجابيًا، بل أيضًا أمنًا مستدامًا. ولجذب المستثمرين، يجب على العراق إثبات استقراره وأمنه من خلال معالجة المشاكل المزمنة المتمثلة في تدخل  الجهات الخارجية والصراعات الداخلية. وبالنسبة لواشنطن، يعني هذا أن على بغداد مواصلة التركيز أولًا على مواجهة داعش، وثانيًا على الحد من خطر الميليشيات المدعومة من إيران (والذي قد يتسع إذا استؤنفت الاشتباكات بين إيران وإسرائيل).

وبالنسبة للعراق، لا تزال مهمة مكافحة داعش بالغة الأهمية، وسيستمر الدعم الأميركي لها. في حين أن التنظيم قد ضعف بشدة، إذ لم يعلن سوى خمس هجمات في العراق حتى الآن في عام 2025، إلا أنه لا يزال يسعى إلى استغلال الانقسامات في البلاد. علاوة على ذلك، يعاني العراق من اكتظاظ السجون بالعناصر التابعة لتنظيمي القاعدة وداعش، إلى جانب التزامه بإعادة جميع العائلات العراقية المرتبطة بتنظيم داعش من سوريا بحلول عام 2026.

ويأتي كل هذا في ظل  خفض التمويل الأميركي لإعادة المهجرين إلى أوطانهم وتحقيق الاستقرار. في غياب الاستثمار في هذه البرامج، ستتعرض قدرة العراق على إعادة إدماج الأفراد العائدين والمفرج عنهم من السجون بنجاح لخطر كبير.

وعلاوةً على ذلك، أثّر التدخل الإيراني على اقتصاد العراق وأمنه. على سبيل المثال، تُهدّد الميليشيات المدعومة من إيران بتقويض الحكومة، وتهديد قوات الأمن العراقية، واستهداف القوات والقواعد الأميركية مباشرةً. وخلال الصراع الإيراني الإسرائيلي الأخير، هدّدت هذه الميليشيات مجددًا بمهاجمة المصالح الأميركية في المنطقة إذا تدخلت واشنطن في الحرب. وبينما تسعى بغداد إلى بناء علاقة اقتصادية وأمنية إيجابية مع واشنطن، عليها تقليص نفوذ هذه الجهات الفاعلة.

ويمكن لبغداد أن تستفيد من نجاحات السعودية في معالجة مشكلة حرق الغاز. ففي سبعينيات القرن الماضي، قررت الرياض البدء في تجميع الغاز المصاحب للنفط عبر نظام رئيسي للغاز، وهو شبكة من خطوط الأنابيب تربط مواقع الغاز في جميع أنحاء البلاد. وقد ساهم هذا الجهد في دفع عجلة التصنيع في المملكة. واليوم، لا يزال هذا النظام الموسع، الذي بدأ تشغيله في أوائل الثمانينيات، يستخدم تقنيات من شركات رائدة مقرها الولايات المتحدة، من بين دول أخرى.

وتحدث تقرير صادر عن وزارة النفط العراقية، عن إمكانية إشراك شركة كي.بي.آر الأميركية في مشروع نبراس للبتروكيماويات، الذي طال انتظاره، في الجنوب. يُذكر أن الغاز المصاحب للنفط في العراق  غني بالإيثان، وهو سائل غاز طبيعي يُستخدم لإنتاج الإيثيلين، والذي يُعدّ مُدخلاً رئيسياً في أي صناعة بتروكيماوية مستقبلية. وهذا مجال يُمكن لبغداد استكشافه بجدية مع الشركات الأميركية.

وعلى المدى القريب، قد يشمل التعاون العراقي مع القطاع الخاص الأميركي استئجار وحدات تخزين وإعادة تحويل عائمة لاستيراد الغاز الطبيعي المسال، الذي يسابق العراق  الزمن لإنشاء البنية التحتية اللازمة له في الجنوب. ونظرًا لأن الولايات المتحدة رائدة عالميًا في مجال الغاز الطبيعي المسال، فقد تُمثل هذه فرصة أخرى للتعاون.

وأظهرت الزيارة الأخيرة لوفد تجاري أميركي رفيع المستوى إلى بغداد إمكانية توسيع التعاون الثنائي في مجال الطاقة. إلا أن نجاح هذا التعاون يتطلب أمن العراق واستقراره، لا سيما في ظل المخاطر الجيوسياسية الناجمة عن الصراع الإيراني الإسرائيلي.