"الظلال" بين ضباب الأسئلة وغموض العالم

القارئ لمجموعة عمرو أمين ما أن يشرع في تصفح الكتاب حتى يواجه نقيض ما توقّعه، حيث تغدو القراءة خوضا في ضباب الأسئلة وتيها بين الظلال.
الحدث الغريب لم يكن ما وقع في الميادين والساحات بل ما وقع في المقابر
الفضاء الذي تتحرك فيه جلّ شخصيات المجموعة هو واقع مصر المحلّي 

قد يطمع قارئ مجموعة عمرو أمين القصصية "الظلال" (الصادرة عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة 2019) أن يجد في أحضان الظلال بعض الراحة والطمأنينة ينشدهما هروبا من حرائق العالم حولنا، قد يحلم أن تكون مجموعة "الظلال" الشجرة الوارفة التي تمنحنا بعض الانتعاش ... لكن القارئ ما أن يشرع في تصفح الكتاب حتى يواجه وانطلاقا من المقدمة نقيض ما توقّعه، حيث تغدو القراءة خوضا في ضباب الأسئلة وتيها بين "الظلال".
يورد الكاتب في المقدمة إشارة لطيفة - وهو يخاطب المتلقي (أو ذاته) -  إلى أنه سيستقبل "ضباب القلق القادم من أرض المجهول". فإذا هو مدعو إلى أن يسافر وحيدا في هذه الأرض زاده الوحيد "ظلمك، جهلك، رحمة ربك". وهي ليست سوى نقط استفهام غامضة تستفزنا لولوج عالم عمرو أمين القصصي ومحاولة تأويله أو فهمه. 
تطرح هذه القصص أسئلة عديدة تتولد من رحم الواقع لكنها لا تلامس سطحه بل تحفر في أعماقه وتجاويفه قبل أن ترتفع إلى فضاء أرحب ناشدة من السماء بعض الوضوح، بعض النور. أليست القصة القصيرة الجيّدة كما يرى خيري دومة "صورة من صور التعبير عن هذا التوحّد والرعب إزاء غموض العالم واتساعه"؟ هذا الغموض والاتساع في العالم يمكن أن يولّد لدى القارئ شعورا بالتوحّد والقلق. لكنه قد يدفعه أيضا إلى ضرب من التحدي لتجاوز عدم الفهم. يحاول الكاتب عمرو أمين في مجموعة "الظلال" أن يتحدى هذا الغموض طارحا أسئلة الإنسان في علاقته بذاته، بالآخرين، بالموت، في ضرب من الثنائيات المتعاودة النابعة من واقع محدّد، لكنها تحمل معها أرقا فلسفيا وهموما فكرية إنسانية.
الفضاء الذي تتحرك فيه جلّ شخصيات المجموعة هو واقع مصر المحلّي، إذ تنطق الشخصيات بلهجتها اليومية المخصوصة تروي همومها وقضاياها الفردية والجماعية (احتلال الناس الميادين حاملة غضب السنين في قصة الظلال، دوائر الفتوة وحب السيطرة في قصة الدوائر، الإيمان بالعفاريت وأثره في نشأة الأطفال في قصّتي طارد العفاريت وشدّ  واركب، الطقوس والعادات الاجتماعية المتصلة بالزواج وأثرها في العلاقة بين الحبيبين في قصة القائمة....) غير أن هذه الأرضية المحلية لم تكن سوى تعلّة أو مرقاة لطرح قضايا الإنسان عموما عبر الرموز والاستعارات، وعبر شفافية اللغة وإيقاع الكلمات. يشدّ أقاصيص المجموعة خيط ناظم وتيمة مهيمنة هي الإنسان في علاقته بالموت، في توقه للحرية، وفي صراعه بين الخير والشر.

مجموعة "الظلال" أطلّت على عالم الإنسان والوجود من منظور الواقع المحلي، وكشفت عبر الرموز ورغم الظلال والضباب بعض أسرار اللاوعي وفتحت العقل على المجهول واللانهائي

الإنسان في مواجهة الموت 
في قصة "الطابونة" تنطلق الأحداث من كشف السارد (الطبيب) على أحد المرضى وهو بائع خبز عجوز. ينصحه السارد بعد الكشف بالامتناع عن التدخين لخطورة وضعه الصحّي. لكن العجوز يلتقي بعد ذلك الطبيب نفسه في أحد المقاهي وهو يدخن النارجيلة، وينشأ بينهما حوار يكشف سوء تقدير الطبيب (السارد) للبسطاء من الناس الذين ظنهم "أسعد حظا إذ لا يشقون بعقولهم غير المعقدة". فإذا تجربة الخباز العجوز صاحب الطابونة في الحياة أعمق. ينقل السارد حديث صاحب الطابونة فإذا هو يصوغ رؤية عميقة للعالم والإنسان، للحياة والموت في ضوء تجربته العملية واليومية منتهيا إلى صورة معبرة "العالم هو طابونة كبيرة والناس أرغفة خبز. يدورون في دوامة الحياة كما تدور الأرغفة في دوامة الخبز الآلي، ليقع (الرغيف) في يد لا تتركه حتى يصير إلى مقبرته النهائية في بطون الجوعى" (ص49). 
ويقدم أمثلة عديدة من معارفه وأهل الحي الذين التهمهم الموت وذهبوا خبزا للمقابر وهي دوامة لم يسلم منها الخباز بعد سنتين من هذا الحوار مع الطبيب. الموت قدر الإنسان والسؤال الذي يطرح هنا هو هل نواجهه بالخوف والرعب أم باللامبالاة والسخرية ولو كانت سوداء كما فعل صاحب الطابونة؟ 
يحضر الموت أيضا في قصص أخرى منها الزيارة والدوائر والرجعة ورسالة في زجاجة. فإذا هو حينا نوع من الخلاص من "ورطة الإنسان المحدقة بأفق وجوده" (ص9) أو خلاص من شر الآخر المتربص بنا "قصة الزيارة" فالموت (الدور العلوي) هو الضامن للطمأنينة والنجاة من الآخرين، إذ يهرب منهم السارد في قصة الزيارة قبل أن يخلصه الموت منهم فيراهم من عالمه الجديد فوق "جسده المسجّى على أرض الشارع دون حراك وهم ما زالوا يسدّدون عشرات الطعنات القاتلة إليه" (ص18). لكن الموت يغدو في قصة "الدوائر" عقابا للإنسان المتكالب على متع الدنيا "ذلك الوحش الجموح الذي يطمح إلى امتلاك الكون كله بين قبضتي يديه".
وفي قصة "الرجعة" تهيمن تيمة الموت في سياق غرائبي تجسده الأحداث التي تقع في المقبرة. وتتنزل الوقائع في سياق تاريخي محدد هو ثورة يناير في مصر حيث "انتفضت جموع الشعب يملأون الميادين في جميع أنحاء الجمهورية معبرين عن غضبهم الجارف من جراء الظلم الواقع عليهم طوال عقود من الزمن" (ص 56). لكن الحدث الغريب لم يكن ما وقع في الميادين والساحات بل ما وقع في المقابر حيث لوحظ فيها حضور جثث غريبة كريهة الرائحة. يتكرر المشهد في عديد المقابر، وتحتد الحيرة والقلق ليكتشف السارد مع مرور الأيام والسنين وبعد تغيّر "الهويّة الحاكمة" أن الناس في المصالح الحكومية وفي الأسواق والمقاهي والبرامج التلفزيونية كانوا كلهم متشابهين ومألوفين لديه تنبعث منهم نفس رائحة الجثث المحتلة للمقابر، "وإذا الوجوه هي نفس وجوه الجثث، بل إن بعضهم (المارة) كان يسير دون ملامح على الإطلاق وبعضهم يسيرون دون رؤوس". وبذلك يغدو الموت في قصة "الرجعة" رمزا منفتحا على عديد الدلالات والتأويلات، منها السياسي ومنها الاجتماعي، منها أن رجوع الجثث إلى الحياة هو عنوان فشل الثورة وافتقاد الحرية بل افتقاد القدرة على التفكير الحر (لغياب الرؤوس عن الأجسام). 
يستدعي الكاتب عمرو أمين استعارة الموت عموما ليصوغ منها أسئلة الإنسان الهارب من مصيره أو الساعي إليه أحيانا، وليولّد أسئلة من صميم واقع الإنسان المتشبث بالدنيا والسلطة والنازع إلى احتلال العالم حوله أو إلى رفض الآخر متناسيا النهاية التي تنتظره في آخر الطريق. 
الإنسان وهاجس الحرية:
في مقابل الموت تبدو الحرية الهاجس الأزلي، الذي يؤرق السارد وتحلم به الشخصيات أو تسعى إليه. فالموت لا يمكن أن يكون إلا نقيضا للحرية. وتسعى الشخصيات في هذه المجموعة إلى تحقيق حريتها عبر السيطرة على الخوف والأوهام والإفلات من سطوة الكوابيس والشعور بالضعف، بمواجهة المعتقدات المكبلة للفكر والجسم أو بطرد العفاريت المتمكنة من أعماق لاوعيها. 
الحرية في قصة عمرو أمين "طارد العفاريت" هي إفلات من رهاب الموت ومواجهة له ولكنها أيضا رفض للعادات السقيمة والطقوس الاجتماعية المعرقلة، ومقاومة لعقدة الخوف المكبلة للإنسان إذ بالحرية فقط يمكن عبور "الشارع المهجور" وتحدي أخطاره (قصة شدّ واركب) الحرية لا تكتسب إلا برهان الشجاعة والتحدي ولا تأتي طوعا. قد تتحقق برفض "القائمات" المسطرة سلفا والمحددة لمصيرنا. ففي قصة "القائمة" تبدو كلمة (قائمة) كلمة مشؤومة وقد عصفت بحياة السارد ودمرت أعصابه. القائمة في نظره قائمات: قائمة شروط الزواج، قائمة نظام الانتخابات، القائمة السوداء للدول والجماعات المسلحة، وهي جميعا مكبلة لوجوده وخياراته، لذا كانت نهاية القصة انتصارا للحرية وتجسيدا لرفض "الصداع المسيطر على الوجود الإنساني" بالتخلص من رمزية القائمة - القيد، ورمي خاتم الخطوبة وما يقتضيه من قيود في أعماق البحر الهادر رفضا لكل أشكال الحصار الكاتم للحرية. 

short story
تفجير النهاية في لحظة الكشف 

وتتدعم أهمية تيمة الحرية في قصتي "رسالة في زجاجة" و"الجائزة" حيث يغدو حلم التوحد بالبحر رمزا للتوق إلى معانقة حرية مستحيلة. يروي السارد في قصة رسالة في زجاجة وفي سياق غرائبي تحوّله بعد الموت إلى "موجة بحرية تحررت من قيد المقبرة إلى اتساع البحر اللانهائي" بعد أن قضى جسده خمسين عاما في مقبرة متاخمة للبحر في الاسكندرية. لكن الغرائبي لا يتعارض مع واقعية الوصف التي شملت سكان الإسكندرية والتحولات السياسية والعمرانية التي طالت المدينة (نكسة يونيو 67، محاولات الشباب اجتياز الحدود والهجرة نحو بلدان أوروبا، تكاثر العمارات أمام البحر وحواجز الأمواج ...) فإذا الحرية التي كانت حلم السارد قبل وفاته والتي جعلته يختار المقبرة المواجهة للبحر تغدو استعارة لمركب غريق في أعماق هذا البحر يحمل بين أحشائه جثامين الشباب وإذا المدينة البحرية "محاصرة".
الإنسان بين الخير والشر: 
في أقصوصة "الظلال" يستدعي الكاتب عمرو أمين تقنيات السينما ليرسم عبر لونين فقط هما الأبيض والأسود عالم الإنسان يتقلب بين قطبي الخير والشر، دون تنظير فلسفي ومن خلال لقطات ومشاهد تنقلها الكاميرا مقرّبة زاوية الرؤية ومباعدة أحيانا.  
السارد /الشخصية هو أب تمكن منه مرض السكري فمنعه من التواصل البصري مع أقاربه ومع العالم، فاشتدت عزلته ووحدته وقد أصيبت عيناه بداء "الماء الأبيض" فأصبح لا يرى إلا ظلالا تحيط بعالمه. وفي انتظار إجراء العملية على عينيه ينقل السارد ما يراه حوله في البيت وفي الشارع من شرفته. فإذا هي ظلال سوداء أو بيضاء تتحرك في الظلام والنهار .. وتنقلب دلالة الألوان في هذه القصة في مفارقة عجيبة، فإذا السواد فيها قرين الإخلاص والصدق والدفاع عن الحرية، لذا يرى السارد السواد في الهوام الليلية للحشرات والفئران وفي ظل السارق يتسلق ماسورة الصرف، وفي الحبيبين على الشاطئ تتشابك أيديهما وأجسادهما. في حين يقترن البياض بظلال بشرية سمتها النفاق والمداهنة ومحاولة إخماد صوت الحرية (ص 24).
أمام هذه الثنائية المقلوبة في دلالة السواد والبياض، الخير والشرّ، يطرح السارد السؤال الوجودي: أي ظلّ سيكون بعد أن يبصر النور بعينيه؟ وهو سؤال الإنسان عن موقعه في هذا العالم ونظرته للأشياء. لقد كشف السارد رغم ضعف بصره عن عمق البصيرة فكشف زيف الإنسان (الظلال البيضاء) يتظاهر بالبياض والنقاء في الظاهر ويدعي الطهر في حين يمارس النفاق والمداهنة والكذب. لكن الطريف في القصّة هو لحظة الكشف والتنوير فيها حيث نلاحظ السارد بعد إجراء العملية على عينيه وبعد أن يسترجع بصره وهو يشاهد "آلاف الأسراب من الظلال السوداء وهي تهاجر من عينيه إلى الأبد". وكأن طبيعة الإنسان (الظل الأبيض) ألا يرى غير الظاهر وأن يعمى عن الباطن (الظلال السوداء) وعن الخير الكامن في الآخر لأنه لا يراه إلا سوادا قاتما.
ورغم أن القصة القصيرة تتعارض عادة مع عرض الأفكار ومع المقال لأنها تعتمد التكثيف والتوتر لعزل لقطة واحدة من الواقع، ولأنها تقتضي الحبكة في البناء، ورغم أن الكاتب قد اختار الخوض في مجال صعب هو أسئلة الوجود في كليته، فإن عمرو أمين قد نجح في هذا التركيز وفي بناء حبكة الأقاصيص وتفجير النهاية في لحظة الكشف كما استطاع  المزاوجة بين البعد الفلسفي وجمالية اللغة والإيقاع الشعري وتوظيف الاستعارات والرموز بمعناها اللغوي (إيماء وإشارة) وبمعناها الفلسفي باعتبارها فائض دلالة، ذلك أن الرمز كما يرى عبداللطيف الزكري "أبلغ تأثيرا من الحقيقة الواقعة وأكثر شعبية". 
وبذلك تكون مجموعة "الظلال" قد أطلّت على عالم الإنسان والوجود من منظور الواقع المحلي، وقد كشفت عبر الرموز ورغم الظلال والضباب بعض أسرار اللاوعي وفتحت العقل على المجهول واللانهائي، واضطلعت بوظيفة استكشافية لعالم الإنسان ووظيفة الوسيط الجامع للعناصر المتنافرة فيه.