العتبات النصية والإرسال والتلقي في رواية "صديقتي اليهودية"

في رواية صبحي فحماوي نجد أحداثا سياسية موثقة تاريخيا وأحداثا سردية موثقة فنيا، يتقاطع كل منهما مع الآخر.
ثمة من يروي ومن يستمع، وجملة من الحكايات التي تقود أحداث كل منها إلى الأخرى
مرافعة سردية عن الشعب الفلسطيني وحقه التاريخي في فلسطين

بقلم: د. محمد صالح الشنطي

في روايته "صديقتي اليهودية" نجد أننا أمام أحداث سياسية موثقة تاريخيا وأحداث سردية موثقة فنيا، يتقاطع كل منهما مع الآخر، من خلال حرفته الجمالية؛ فثمة علاقة شديدة الوثوق بين أحداث الرحلة بأزمنتها، وبين الوقائع السياسية، فهذه الرحلة تشكل الخط الرئيس، معاد إنتاجها وفقا لرؤية الكاتب، ومرسومة علائقها وفق تشابكات الحدث التاريخي، منذ توقيع اتفاقية أوسلو، الذي تدور أحداث هذه الرواية في زمنها، وللكاتب موقف منها؛ فهو - وإن لم يكن محسوبا على أي طرف من الأطراف - فإنه يمثل رؤية فريق عريض في الساحة الفلسطينية والعربية، إزاء هذه الاتفاقية وموقّعيها.
ومنذ البداية يتبدّى لنا أن الرواية تتخذ من تقنيات (اليوميات) إطارا سرديا لها، فهي تقوم على مبدا (القصة الإطار) كما هي الحال في (ألف ليلة وليلة)، بل انها ربما تناصّت مع النهج السردي لها، فثمة من يروي ومن يستمع، وجملة من الحكايات التي تقود أحداث كل منها إلى الأخرى؛ أما الفواصل التي تفصل بين أجزائها فهي تختلف عما هو الحال في ألف ليلة وليلة، حيث يدرك (يائيل) النوم فتغفو على وقع سرد الراوي، وإن لم يدركها الصباح، كما أدرك شهرزاد، وقد تكون الفواصل مجرد بدايات ليوم جديد، بغض النظر عن أي اعتبار آخر، جريا على نهج كتابة اليوميات. 
وقد استبدل الكاتب الفصول الروائية المعتادة باليوميات المؤرخة بتواريخ محددة، لقد ورد ذكر (ألف ليلة وليلة) في الرواية أكثر من مرة، واحتج بها الكاتب بوصفها تراثا عربيا ألهم كُتّاب السرد في العالم كله؛ يجيء ذلك ضمن استراتيجية دفاعية يتبناها في مواجهة جحود الغرب وأنانيته واستعلائه، في حين أنه لم يتورع عن تسجيل المآثر الغربية في السلوك والنظام، فهو ليس شوفونيا تحدوه عقدة الخواجة، وليس شعوبيا منكرا لحضارة أمته؛ ولكنه ينتقدها بمرارة مشفقة.
مؤشرات سيميائية
تنطوي رواية صبحي فحماوي على مرافعة سردية - إذا صح التعبير - عن الشعب الفلسطيني وحقه التاريخي في فلسطين وبطلان الرواية اليهودية التي تحاول أن تثبت حقا مزعوما لليهود في فلسطين وتنطوي على إدانة اتفاقية أوسلو، وهذه الإدانة تشكل عصب الرؤية الرئيس في هذا العمل الفني، وقد أفصح عنه الكاتب بشكل مباشر قرب نهاية الرواية حين انتهت به الرحلة إلى أوسلو، حيث جاء على لسان الراوي أنه رأى في الفندق الذي نزل فيه عددا من القادة الفلسطينيين الذين كانوا يتفاوضون مع اليهود في أوسلو، وينتقد اعترافهم بإسرائيل دون أن ينالوا اعترافا بدولة فلسطين. 

من المعلومات المهمة التي أراد أن يرسخها الكاتب ما يتعلق بأصل يهود أوروبا الذين هم ليسوا ساميين أصلاً وفصلاً، بل جاءوا من مملكة الخزر، وينتمون إلى قبائل عاشت في هذه المنطقة واعتنقت اليهودية وأقامت إمبراطورية دامت نحو 500 عام بحسب خبير الجينات إران إلهايك.

الرواية تبدأ بانطلاقة الحافلة السياحية من ساحة (بيكادللي) وسط لندن لتجوب سبع دول في شمال أوروبا، وهذه البداية تنطوي على مؤشر سيميائي يحدد مسار الرواية من حيث الموقف والجماليات، ويمكن أن ندعم ما ذهبنا إليه على النحو التالي:
تضعنا هذه البداية جماليا أمام منطلق سردي يعتدّ بتقنيات خاصة لها نهجها في السرد والوصف؛ فأدب الرحلة أدب وصفي سردي يتناغم فيه إيقاع الحركة مع السكون وتقاطع الزمان مع المكان.
الانطلاق من وسط لندن له دلالات علاماتية تاريخية سياسية، تنتشر في مساحة ممتدة عبر ما يقرب من قرن من الزمان؛ فلندن عاصمة دولة الانتداب التي أصدرت وعد بلفور، ومكنت اليهود من أرض فلسطين، عبر سماحها للوكالة اليهودية في فلسطين بممارسة دور الحكومة، وسلمتها الأراضي الأميرية المملوكة للدولة، وشجعت إقامة المستوطنات، وانسحبت من فلسطين في وقت مبكر، لتتولى الوكالة اليهودية حكم البلاد وتشريد العباد.
الدول السبعة التي ستكون محطات رئيسة لهذه الرحلة هي الدول التي هاجر منها اليهود إلى فلسطين وهي تمثل القوى الغربية الاستعمارية التي مكنت اليهود من احتلال أرض فلسطين.
العبارة الاستهلالية في الرواية لها حمولة دلاليّة تنبؤية رمزية:
"تستعد الحافلة للانطلاق بمحرك ينفث بهدوء بخارا شاحب البياض من عادمه"، الإشارة الأولى في هذه العبارة لحظة انطلاق وهي تتساوق زمنيا مع  بدء المفاوضات في (أوسلو)، وأما البخار الأبيض الشاحب الذي ينبعث من العادم فيومئ إلى النتائج، هذه رؤية تستقرئ الواقع، وربما تستشم الغيب وفق ما يراه الكاتب، وإذا ذهبنا بعيدا في التأويل السيميائي، فإننا نرى أن السجاد الاصطناعي المثقّب اللدن الذي يفرش كي لا ينزلق الصاعدون على درجات الحافلة، إشارة واضحة إلى ما أعد لهذه المحادثات وما نصب من فخاخ لأصحابها.
والأفق الضبابي الذي انتهت به الرحلة، والافتراق الحميم بين الراوي بطل الرواية وصديقته اليهودية (يائيل )، مجهول المصير، الذي لخصه الراوي في أسئلة أربعة يتوازى مع ما انتهت إليه اتفاقية أوسلو:
(عن كيفية الافتراق ووعد اللقاء ثانية، وانتظار الزيارة في عمان، ومدى التوقع باستمرارية العلاقة).
قد لا يكون الكاتب قصد إلى شيء من هذا؛ ولكن العمل الفني بطبيعته ينطوي على آلية تكسر أفق التوقع عند كاتبها، وتتّسق مع هذا الأفق عند متلقيها، وهذا يدخل في إطار جماليات التلقي لدى أصحاب هذه المدرسة النقدية؛ ثم إنه من المعروف أن الكاتب يبدأ الرواية بكامل وعيه، ويهيمن على شخوصه منذ بداية العمل؛ ولكنه ينقاد بعد ذلك مرغما إلى حيث تجرّه بمنطقها الخاص (منطق العمل الفني)، وصبحي فحماوي الذي ينساب كالشلال، ويتدفق كالنهر في لغته السردية وتداعياتها المجنحة، الخارجة عن سلطة الضبط والربط الصارمتين، فهو مصمم الحدائق ومهندسها - يميل مع تضاريس الأرض ويعيد تشكيلها وفق ذوقه الخاص وما يمليه عليه مخياله الفني - تحمله كلماته على موجات أثيرها الذي هو نفحة من روحه وفيض من ذائقته الجمالية.

علاقة شديدة الوثوق بين أحداث الرحلة بأزمنتها، وبين الوقائع السياسية
رؤية فريق عريض في الساحة الفلسطينية والعربية

ثنائية الإرسال والتلقي
المحور الرئيس في الرواية شخصية (يائيل) اليهودية المكسيكية، فهي الطرف الرئيس في ثنائية المرسل والمتلقي، وفق عناصر الاتصال عند ياكوبسون (المرسل والمرسل إليه، والرسالة والسياق) وهي التي نجدها مذكورة في النقد القديم عند حازم القرطاجني وغيره، حتى لا نكون أسرى لعقدة التفوق الغربي، فالراوي بطل الرواية هو المرسل في الدرجة الأولى، ويائيل هي المتلقي، التي تتحول إلى مرسل في بعض الأحيان، ولكنه المرسل غير المهيمن الذي يملك صلاحيات محدودة في بعض ردود الفعل التي هي مجرد أصداء لصوت المرسل الأساس، وإن بدت في بعض الأحيان متحدّثة رئيسة تسرد بإيجاز وقائع من حياتها؛ ولكنها في هذا الدور الذي تنهض به لم تكن مبادرة؛ بل كانت تقوم بدورها بتحريض من الراوي، الذي يفتح شهيتها للكلام حينا، يوغل في إطرائها والتمدّح بجمالها حينا آخر، الأمر الذي يجعلها تنحرف بمشاعرها وتدور بمعدل نصف دائرة بأفكارها، وترى في جمال قاسم بغيتها "لقد وقعت على كنز ألف ليلة وليلة التي قرأتها في صباي".
لقد كان هذا التحول نقلة مهمة انداحت بالعلاقة التي شابتها هواجس التحدّي، وتقلتها من بعدها العدائي إلى فضائها الإنساني، فبدأت تبوح بأسرارها، لتكتمل ثنائية السرد في حوارية بوحية تتجاوز المصارحة، إلى ما يشبه المناجاة، في حميمية رائقة، تتجاوز أفياء السعادة الوارفة، في حضورها البهي، إلى استذكار الجحيم الماضي الذي أراد الراوي من خلاله أن يفضح المنظومة القيمية الغربية، التي تشكل ثقافة المجتمع، فهذه اليهودية المكسيكية تبدو رمزا للتشرد وعقدة الشتات لدى اليهود والاضطهاد الذي مارسه الغرب الرأسمالي وعمل على توظيفه لاستلاب أرض الغير، فكان بوح يائيل إدانة صريحة تتجاوز التقرير المباشر إلى المعادل الفني؛ من خلال سلوك الزوجين (إلياهو وبنيامين) اللذين أدانتهما عبر سردها لمجريات حياتها، فالأول خدعها وغدر بها، والثاني كان تاجر مخدرات تركها وحيدة تواجه قدرها. 
وبهذا قدم الكاتب مرافعة تدين هذه الثقافة، يضاف إليها سلوك الأب الذي فقد إنسانيته وتخلى عن ابنته فطردها شر طردة، ويقرن الكاتب بين هذا المصير البشع الذي عانت منه يائيل  وبين الحركة الرمزية للحافلة، حيث يقول "تنحدر الحافلة من الهضاب الجبلية إلى بحر الشمال" وكأن هذا الانحدار يحمل معنى رمزيا لما آلت إليه جملة المواقف التي تجسّد أخلاقيات هذه المجتمعات وثقافتها، وقد عزّز هذا باستحضاره لشخصية أنثوية يهودية أخرى ستينية سمينة جرّت يائيل لصندوق الدفع، لتحصَلا على نصيبيهما من الشطائر أولاً، دون اكتراث بالآخرين المصطفين بالدور، في إدانة غير مباشرة للطباع المأثورة عن اليهود.
أما الرسالة فهي كم هائل من المعلومات تتّصف بالطرافة والجدة وعدم المألوفية والحرارة ، فالمعلومة عنصر رئيس، يذكرني برواية غازي القصيبي "العصفورية" التي وصف فيها الدكتور الغذامي المعلومة بأنها البطل، مع اختلاف النهج والتشكيل عند الكاتبين؛ ولكن كثافة المعلومات في الرواية طاغية إلى حد كبير، تنتمي إلى التاريخ الموغل في القدم حينا، والتاريخ المعاصر حينا آخر، والواقع اليومي في أغلب الأحيان.
من المعلومات المهمة التي أراد أن يرسخها الكاتب ما يتعلق بأصل يهود أوروبا الذين هم ليسوا ساميين أصلاً وفصلاً، بل جاءوا من مملكة الخزر، وينتمون إلى قبائل عاشت في هذه المنطقة واعتنقت اليهودية وأقامت إمبراطورية دامت نحو 500 عام بحسب خبير الجينات إران إلهايك.