العراق القوي في ساحة الطرق الأغر

"لم تنجلِ الصورة بعد"

"ليتها لا تنجلي"

جملتان مترادفتان، تطرق أحدهما أبواب الأخرى بذعر كما لو أنهما تنتميان للغتين مختلفتين. فماذا يمكن أن يرى المرء خلف كل هذا الغبار الذي يحيط ببلاد كانت تمثل جنات متخيلة وهي اليوم مجرد حطام؟

ما أن كان ذكر العراق يمر حتى تشع العيون بمرأى أميرة بابل التي شيد نبوخذنصر من أجلها جنائنه المعلقة. وإذا تبدل المشهد فسنرى هارون الرشيد ونديمه الشاعر أبو نؤاس وهما يجوبان أزقة بغداد بثياب تنكرية باحثين عن شهرزاد التي زجت بهما بين سطور حكاياتها الليلية. بلد الثلاثين مليون نخلة التي يعجز العراقيون عن جرد أنواع تموره كان شاعره قد رآه من وراء البحر بيأس اسطوري وهمس في أذنه "والبحر دونك يا عراق".

لقد تحققت نبوءة الشاعر. هناك بحار وجبال وهضاب وأودية تسكنها الجن تفصل بيننا وبين العراق "الذي نعرفه والذي سمعنا عنه والذي لم يعد يتذكر نفسه".

في أقسى أحواله وأصعبها وكان عبر تاريخه مختبرا للقسوة ومواجهة الصعاب كان العراق نزيها وكريما وأبيا وواهبا وعفيفا ومضحيا ومكابرا وبطوليا وخلاقا فما الذي جرى له لكي يسمح بابتذاله واستصغاره وإذلاله ومصادرة عفته ونزاهته وكبريائه والتعريض بشرف قيمه الحضارية من قبل فئة فاسدة، فقيرة الخيال، متدنية الأخلاق، لا تطيق رؤيته سليما معافى؟

ألم يكن العراق عبر التاريخ بلد الملل والنحل؟

بلى. كان عنيدا وشقيا ومشاغبا وفاتنا ومفتونا وساحرا ومسحورا وعنيفا بل ودمويا وغاضبا ومتسرعا ومتناقضا وكاسرا ومكسورا ومضطربا وقلقا "كأن الريح تحتي" حسب ابنه المتنبي.

كان العراق مخترع ملل ونحل وهو ما كان مصدر حيرة واستفهام بالنسبة للآخرين.

لقد تعايشت تلك الملل في ظل عراق واحد. اختلفت تلك الملل في ما بينهما. دس بعضها السم للبعض الآخر. غير أن الأمر لم يصل إلى درجة خيانة الحاضنة الوطنية التي هي العراق من خلال تدميرها.

كانت هناك حافة حرص الجميع على أن لا يصل أحد منهم إليها.

فسيفساء العراق كانت تهبه صورة بلاد، ينطوي وجودها على عدد لا يُحصى من الاحتمالات الجمالية واللغوية والاجتماعية والاقتصادية.

الفنان الأميركي العراقي الذي كرمته لندن بعرض تمثاله الثور المجنح المصنوع من علب الدبس (عصير التمر) العراقي في واحدة من أكبر ساحاتها التاريخية (الطرف الأغر) هو في الحقيقة لم يولد في العراق وقد يكون والده هو الآخر لم يولد هناك غير أن العراق القوي والشاعري في الوقت نفسه يسكنه.

الفنان الذي يحمل من العراق ما تضمنته ذاكرة عائلته اليهودية استحضر العراق من خلال تمثاله في أبهى صوره وأشدها شروقا في التاريخ. ذلك التمثال يقول أشياء كثيرة تعجز عن أن تقولها الثيران الآشورية المجنحة التي تقيم في المتحف البريطاني.

هناك دائما عراق آخر.

العراق الذي يعرضه مايكل راكويتس على العالم هو ليس العراق الذي ذهب به الفاسدون إلى الكويت في آخر محاولة للتسول من أجل أن يذلوه ويهينوا كرامته تنفيذا لأوامر أسيادهم في إيران.

ذلك الشاب المتمرد عرف كيف يقفز على الصورة المضللة والمشوهة التي انتهى العراق إليها في ظل العته السياسي الرث الذي تمكن منه.

الرمزية واضحة. فالعراق يقيم في مكان آخر. مكان تجتمع فيه صفاته النبيلة وقيمه الحضارية وكرمه الجمالي.

سيرحل الغزاة الإيرانيون مثلما رحل الغزاة الذين سبقوهم عبر التاريخ.

سيختفي مريدو الولي الفقيه مثلما اختفى أبو رغال.

العراق الذي احتضنته ودمعت عيناي وهما تضيعان وسط أنوار حضوره حين وقفت أمام عمل فني حديث قررت بلدية لندن أن تحتفي به وتسبغ عليه الكثير من عاطفتها وعاطفة زوارها لعامين هو البلد الذي لم ينتصر عليه الفاسدون.

ستنجلي الصورة حتما وسيشرق وجه العراق وضاحا مثلما نعرفه.