العراق بحاجة الى دولة علمانية ديموقراطية وليس دولة مدنية ديموقراطية (2)

الدولة المدنية التي تريدها القوى الديموقراطية العراقيّة كبديل لنظام المحاصصة، لا تعالج أهم نقطة في بناء مجتمع جديد ودولة جديدة: فصل الدين عن الدولة.

القوى الديموقراطيّة العراقية لم تتبن لليوم في برامجها السياسية وأنظمتها الداخلية وهي تعمل على أنهاء نظام المحاصصة الطائفية القومية، شعار الدولة العلمانية الديموقراطية، ولازالت ترفع شعار الدولة المدنية الديموقراطية كبديل لنظام المحاصصة> وهذا الشعار أشبه بالدواء الذي يهدئ آلام المريض دون علاجه، كما وأنّ نظام المحاصصة ليس ببعيد عن مفهوم الدولة المدنية من وجهة نظر الإسلاميين وشركائهم في السلطة. فنظام المحاصصة يطرح نفسه على أنّه ليس بنظام ديني بل أقرب الى المدنية، ويمنح القوى التي تصف نفسها بالمدنية هامش "كبير" من الحريّة والتي هي بالحقيقة مقنّنة وتتحرك ضمن أطر وخطوط حمراء لا تستطيع القوى الديموقراطية تجاوزها لتكون مؤثرّة في الحياة الاجتماعية والسياسية للبلاد، لا من خلال الانتخابات التي لا تستطيع أي القوى الديموقراطية التي تطرح نفسها كقوى مدنية من إختراقها لصياغة السلطة مجموعة قوانين تحول دون حضور فاعل للقوى الديموقراطية في المشهد السياسي العراقي ومنه البرلمان من جهة، ولا من خلال العمل الجماهيري لغياب وحدة هذه القوى وتبنيها برنامج إنقاذ وطني في مواجهة قوى السلطة الفاسدة من جهة ثانية، ولغياب الوعي الانتخابي وضعف الانتماء الوطني مقارنة بالإنتماءات الدينية والطائفية والقومية والعشائرية لجماهير واسعة من أبناء العراق من جهة ثالثة. وكمدخل للتمييز بين ما تسمّى بالدولة المدنية والدولة العلمانية نرى أن لا ضير في العودة الى تعريفات اللغة لهما.

المدنيّة كما جاء في معجم المعاني الجامع إسم وهي: الجانب المادّي من الحضارة كالعمران ووسائل الإتصّال والترفيه، يقابلها الجانب الفكري والرّوحي والخلقيّ من الحضارة، وتعني كذلك الحضارة وإتّساع العمران. مدني: (اسم) منسوب إلى مَدينة، خاص بالمواطن أو بمجموع المواطنين، عكس عسكري. وقد تناول المعجم جملة من التعريفات المدنيّة كالقانون المدني، الدفاع المدني، الموت المدني، الطيران المدني، الحقوق المدنية، التربية المدنية، الحريات المدنية، المجتمع المدني، الخدمة المدنية والزواج المدني، ولم تتطرق معاجم اللغة مطلقا الى ما تسمى بالدولة المدنية. فالمدنية والمدني والمتمدّن يقابلها بالإنجليزية كلمة Civil، وهي غير كلمة العلمانية أو اللادينية في المعاجم الإنجليزية أي Secular، أما Secularism المشتقة من التي قبلها، فأنها تعني نظام دولة لا يلعب فيه الدين أي دور في تنظيم حياة المجتمع ولا دور له في البنية الأساسية في بناء ونهضة المجتمعات والدول الناجحة أي التعليم. كما وأننا لا نجد هذا المصطلح أو تعريفا له في المراكز البحثية الغربية ولا في حقلي العلوم السياسية والفلسفية.

ما تسمّى بالدولة المدنية ليست ضد أن يكون للدين دور في الدساتير والقوانين التي تنظم حياة الناس الاجتماعية، كما ولا تقف أمام أن يكون للدين دور في المناهج التعليمية خلال المراحل الدراسية المختلفة وصبغ التعليم بصبغة دينية، أو بصبغة يكون فيها للدين دور واضح وملموس فيها، وهذا ما يدفع الإسلاميون ومنهم اسلاميّو العراق للتواجد في المنطقة الرمادية وهم يتعاملون مع خطاب القوى الديموقراطية الواقعة في فخ ما تسمّيه الدولة المدنية من جهة، ومع منظمات المجتمع المدني ويخترقونها ويشترون ذمم بعض الناشطين فيها كما حدث مع بعض ناشطي انتفاضة تشرين خدمة لمشروعهم المستقبلي أي أسلمة الدولة. وهذا ما يدفعنا للتساؤل حول إن كانت القوى الديموقراطية تريد بناء دولة متقدمة على أنقاض دولة المحاصصة التي دمرّت البلاد وستقوده للخراب فيما أذا استمرت في السلطة، أم سترفع شعار تحقيق الدولة العلمانية الديموقراطية وتعمل من أجله باعتبارها الطريق المفضي لتحرر البلاد من قبضة الفساد والفقر والجهل وسطوة الميليشيات المسلحة؟

الإسلاميون يستطيعون العيش مع ما يُطلق عليه الدولة المدنية، لكنّهم يُحشدّون كل قواهم ضد العلمانية والعلمانيين والدولة العلمانية. وكوسيلة لبدء هجومهم عليها يروّجون على أنّ العلمانية ظهرت في الغرب لمواجهة الكنيسة التي كانت تحتكر الدين وتبيع صكوك الغفران، وأنّ الاسلام لا يمتلك النظام الكهنوتي كما المسيحية، وأنّها ظهرت في الغرب لكسر هيمنة الكنيسة والتحرر من أغلالها. وكأننا في العراق على سبيل المثال وغيره من البلدان العربية، لسنا مقيّدين بفتاوى المؤسسات الدينية وتدخلاتها في الشؤون السياسية خدمة للمشروع الإسلامي الذي لم يستطع أن يقدّم لليوم نموذجا ناجحا واحدا في أي بلد عربي، علما أنّ جميع المؤسسات الدينية تعمل لصالح النخب السياسية ومصالحها في بلدانها وتمجّد صفوة رجال الدين وتمنحهم صفة القداسة، ومن خلال قداسة هؤلاء ووقفوهم الى جانب السياسيين كما في جميع مراحل التاريخ الإسلامي فأنّها تنشر العبودية في المجتمع وتتّهم بشكل غير مباشر من يناهضهم ويناهض الحكّام على أنّهم كفرة أي علمانيين بالمعنى السياسي للكلمة.

وفي هذا الصدد يقول جان بودان في مؤلفه كتب الجمهوريات الستة: "بما أنّه لا يوجد أي أحد أكبر في الأرض بعد الله غير الأمراء السياديين، وإنّ الله أختارهم ضبّاطّا ليقودوا الناس الآخرين، فأنّ الحاجة ضرورية للنظر في مكانتهم من أجل احترام جلالتهم بكلّ طواعيّة، والاحساس بهم والتحدث عنهم بكلّ شرف، لأن الذي يحتقر أميره صاحب السيادة يحتقر الله الذي هو صورته على الأرض". وإن كانت الكنيسة قد باعت صكوك الغفران لسرقة المؤمنين المسيحيين البسطاء، فأنّ المؤسسات الدينية ومن خلال فتاواها ولسرقة المؤمنين المسلمين البسطاء تحث الناس على طاعتها وبالتالي طاعة الأنظمة التي تعمل هذه المؤسسات لصالحها، فترسم لهم عالم آخروي جميل خال من الظلم والاضطهاد ليعيشوا حياة ملؤها الظلم والاضطهاد والفقر والمرض والجهل والتخلف في حياتهم الدنيا، وهذا بحد ذاته شكل من أشكال صكوك الغفران. واذا تركنا التفسير اللغوي لأسم كهنوت وهو وظيفة الكاهن ومصدر الكهانة أي معرفة الأسرار أو أحوال الغيب، فأن رجال الدين الإسلامي اليوم هم أقرب الى الكهنة والكهنوت كما الكهنة والكهنوت في مختلف الأديان.

لقد ظهر مصطلح الدولة المدنية بوضوح وقوّة إثر ثورات الربيع العربي التي لم تنجح في إحداث تغييرات حقيقية في أيّ بلد عربي الّا بشكل جزئي في تونس مهد ثورات الربيع العربي، أمّا في أوروبا فأنّ مصطلح المجتمع المدني وليس الدولة المدنية بدأ التداول به في القرن السابع عشر من قبل فلاسفة العقد الاجتماعي مقابل نظرية الحقّ الإلهي كتوماس هوبز وجون لوك وهيغل وماركس وغيرهم وغرامشي في العصر الحديث.

أنّ ما تسمّى بالدولة المدنية مصطلح حديث (عربي) يرجع أساسه لاستنتاجات غير علميّة لنظرية الحكومة المدنية لجون لوك، وإلى توافق غير معلن بين القوى الإسلامية كي لا تتّهم من أنّها تعمل لبناء دولة دينية إسلامية، والقوى الديموقراطية التي تخاف من طرح العلمانية كمبدأ نتيجة تكفير الإسلاميين للعلمانية والعلمانيين واعتبارهم ملحدين. ولا وجود لها كما قلنا في أي معجم سياسي غربي أو مركز بحثي مهتم بالعلوم السياسية والفلسفية.

والدولة المدنية التي تريدها القوى الديموقراطية العراقيّة كبديل لنظام المحاصصة، لا تعالج أهم نقطة في بناء مجتمع جديد ومن ثم دولة جديدة وهو فصل الدين عن الدولة. أنّ أي تغيير سياسي لا يستحدث آليات سياسية واجتماعية واقتصادية وفكرية لنقل المجتمع للأمام وبناء جديد للدولة، هو تغيير فوقي واستمرار للحالة السياسية التي سبقت التغيير من خلال عدم حلّ المشاكل التي كانت سببا لهذا التغيير ودافعا لحصوله. ومثلما لم تستطع قوى المحاصصة استحداث الآليات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية لبناء دولة عصريّة، فأنّ القوى الديموقراطية لن تكون قادرة هي الأخرى على استحداث هذه الآليات من خلال ما يطلق عليه الدولة المدنية التي ترفع شعارها، لأنّها بحاجة الى تحقيق نقطة لا تستطيع "الدولة المدنية" تحقيقها وهي الفصل الكامل للدين عن الدولة كمقدمة لتفكيك أهم حليف للمؤسسة الدينية والقوى الطائفيّة أي المؤسسة العشائرية. وهذه المهمّة التي هي الحل الوحيد لانقاذ العراق لا تأتي الّا عبر نظام عَلماني ديموقراطي حقيقي، يأخذ على عاتقه بناء مجتمع وفق آليات تختلف عن الآليات التي سبق وأن استخدمتها السلطات العراقية السابقة ومنها سلطة المحاصصة.

أنّ قيام نظام علماني ديموقراطي بالعراق سيقدّم أكبر خدمة للدين، بعد أن جعله الاسلاميّون ومنهم معممّون ومؤسسات دينية في وجه مدافع الانتقادات، بنشرهم الفساد والفقر والجهل وقمع الحريّات وما ينتج عنها من آفات اجتماعية وخراب اقتصادي واستعباد الناس، عن طريق منع الدين والمؤسسة الدينية للعب أي دور في مجال التعليم باعتباره الركيزة الأساسية لبناء دولة متقدمة، لذا نرى إصرار الأحزاب الإسلامية ومعها المؤسسات الدينية على تدمير التعليم بالبلاد، عن طريق إضعاف المدارس والجامعات العراقية التي كانت يوما في مستوى متقدم عن طريق انتشار المدارس والجامعات الأهليّة التي تمتلكها مؤسسات دينية وشخصيات من هذه الأحزاب، والتي يلعب الدين الطائفي والمفاهيم القوميّة في مناهجها دورا كبيرا. ومن خلال تجربة عراق المحاصصة اليوم نرى ضعف الدولة في مجال التعليم وعدم إمكانيتها في تطبيق نظام تعليمي حقيقي وموحّد بالبلاد، وترك الأمر لأهواء مالكي المدارس والجامعات الأهلية، الذين يبحثون عن الربح مع استخدامهم المناهج التعليمية وفضاء هذه المدارس والجامعات كحاضنة آيديولوجية.

ويتجاهل الإسلاميون أن العلمانيّة حين تدعو إلى فصل الدين عن الدولة، تكون قد جنّبت سقوط الدين في معتركات المصالح السياسية وتقلباتها، والتي تؤدي إلى تشويه صورة الدين في حال تم استخدامه في ألاعيب السياسة، وعن هذا كتب الفيلسوف الإنجليزي جون لوك قائلا: "من أجل الوصول إلى دين صحيح، ينبغي على الدولة أن تتسامح مع جميع أشكال الاعتقاد دينيًا أو فكريًا أو اجتماعيًا، ويجب أن تنشغل في الإدارة العملية وحكم المجتمع فقط، لا أن تُنهك نفسها في فرض هذا الاعتقاد ومنع ذلك التصرف. يجب أن تكون الدولة منفصلة عن الكنيسة، وألا يتدخل أي منهما في شؤون الآخر. هكذا يكون العصر هو عصر العقل، ولأول مرة في التاريخ البشري سيكون الناس أحراراً، وبالتالي قادرين على إدراك الحقيقة"، وإذا ما أردنا أن نطبّق مقولة لوك هذه بالعراق فنستطيع القول "يجب أن تكون الدولة منفصلة عن المؤسسة الدينيّة، والّا يتدخل أيّ منهما في شؤون الآخر. هكذا يكون العصر العراقي القادم عصر العقل، ولأوّل مرّة في تاريخ العراق الحديث سيكون الناس أحرارا وبالتالي قادرين على إدراك الحقيقة".

الدولة العلمانية الديموقراطية ليست معادية للدين والتديّن، بل على العكس فأنّها ومن خلال قوانين حريّة الرأي والمعتقد والفكر والضمير تمنح المؤمنين وغير المؤمنين حقوقا على قدم المساواة دينيا، كما تمنح أبناء شعبها من القوميات والأثنيات المختلفة حقوقا متساوية أيضا. ومثلما توفّر الحماية للمؤمنين قانونيا فهي توفّر الحماية للملحدين من خلال مبدأ حريّة الرأي والمعتقد والضمير. أنّ الحروب الدينية الطائفية والحروب القومية معدومة تقريبا في ظل العلمانية الديموقراطية وهذا ما نحتاجه فعلا بالعراق اليوم، كون الطائفتين المسلمتين خاضتا ولأوّل مرة في تاريخ العراق الحديث حربا حقيقية وتتخندقان اليوم مقابل بعضهما البعض، وخلافاتهما الفقهية والتي يستغلّها ساسة الطائفتين مع خطر المواجهة القومية بين العرب والكرد، يهددان بتقسيم البلاد كما حصل في السودان ويوغسلافيا والهند وبعدها انفصال بنغلاديش عن باكستان. وسيبقى الفصل القانوني وفق الدستور بين الدين والسياسة، والتعليم بفصله التام عن التأثيرات الدينية لأي دين أو طائفة، مهمّة لا ينجح بها الا نظام علماني ديموقراطي، مع الأخذ بنظر الاعتبار من أننا بحاجة الى دستور يكتبه فقهاء قانون وليس فقهاء دين.

العلمانية كنظام للحكم لم تظهر دون مخاض سياسي واقتصادي واجتماعي وأخلاقي خاضته البشرية طوال تاريخها، بل تطورت على أنقاض أنظمة الحكم المختلفة منذ العبودية لليوم، ونجح الراهب مارتن لوثر على سبيل المثال في نضاله ضد الكنيسة الكاثوليكية التي سنّت صكوك الغفران كوسيلة لإثراء كهنتها، عندما بيّن للناس أن سلوك الكنيسة كان بعيدا عن تعاليم الكتاب المقدس. فهل هناك مرجع ديني أو مصلح ديني أو سياسي قادر اليوم وللحفاظ على الدين والمذهب ان يبيّن للناس أنّ سلوك رجال الدين والساسة الإسلاميين هو على الضد ممّا جاء في القرآن، وأنّ هيمنتهم على السلطة ما هو الا اثراء لهم وإساءة للدين الذي يؤمن به الفقراء المؤمنون، كما كان الفقراء المسيحيّون المؤمنون وقتها؟

والآن فهل نحن بحاجة الى "دولة مدنية ديموقراطيّة" أم الى دولة علمانيّة ديموقراطية؟ سؤال موجّه الى القوى والمنظمّات السياسية التي على عاتقها يقع إنقاذ العراق وشعبه من شرور المحاصصة الطائفيّة القومية.

لا يمكن تحطيم اي شكل من أشكال العبودية إلا بتحطيم كل أشكال العبودية... (كارل ماركس، نقد فلسفة الحق عند هيغل).