العظمة الأدبية تصطدم بمعايير السوق في 'عزيزي الكاتب'

كتاب الصحفي الإيطالي ريكاردو بوزي يعد تجربة فريدة تمزج بين السخرية والنقد الأدبي، حيث يتخيل المؤلف خمسين رسالة رفض موجهة إلى أبرز كتّاب التاريخ الأدبي، وكأنهم تقدموا بأعمالهم الخالدة إلى دور النشر في العصر الحديث.
رولا سالم
دمشق

صدرت حديثًا عن دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع الترجمة العربية لكتاب "عزيزي الكاتب: رسائل الرفض من دور النشر للأعمال العظيمة" للصحفي الإيطالي ريكاردو بوزي، بترجمة محمد ناصر الدين.

يُعد هذا العمل تجربة فريدة تمزج بين السخرية والنقد الأدبي، حيث يتخيل المؤلف خمسين رسالة رفض موجهة إلى أبرز كتّاب التاريخ الأدبي، وكأنهم تقدموا بأعمالهم الخالدة إلى دور النشر في العصر الحديث. من خلال هذه الفكرة الإبداعية، يسعى بوزي إلى تسليط الضوء على التحديات التي قد تواجهها الأعمال الأدبية العظيمة عند خضوعها لمعايير السوق الحالية، حيث تهيمن الحسابات التجارية على القيمة الإبداعية.

لاقى الكتاب استحسانًا واسعًا في الأوساط الثقافية الأوروبية، إذ وصفته صحيفة الغارديان البريطانية بأنه "عمل فني ساخر يتحدى هيمنة النظام التجاري للنشر، ويذكرنا بأن العظمة الأدبية لا تخضع لمعايير السوق". أما صحيفة لاريبابليكا الإيطالية فرأت فيه "صرخة في وجه هيمنة العولمة التي حوّلت الأدب إلى سلعة". فيما اعتبرت مجلة ببلشرز ويكلي أن الكتاب يقدم "تحليلًا ذكيًا ومرحًا للضغوط التي يتعرض لها الإبداع في عالم النشر الحديث".

لكن في المقابل، رأى بعض النقاد أن الرسائل قد تبدو متكررة في فكرتها الأساسية، مما يقلل من تنوع الطرح، كما أشار آخرون إلى أن الكتاب يقتصر على النقد دون تقديم حلول أو بدائل لصناعة النشر.

نقد ساخر بمنطق العولمة

في مقدمة الترجمة العربية، يوضح المترجم محمد ناصر الدين أن الكتاب الصادر عن دار هيوم أكت سود "أكثر من مجرد نص ساخر يبعث على الابتسام، بل هو نقدٌ خفيٌ لمنطق العولمة الذي يتحكم في مختلف جوانب حياتنا، بما في ذلك عالم النشر". ويتساءل حول فرص نجاح أعمال أدبية خالدة مثل الإلياذة لهوميروس أو بانتظار غودو لصمويل بيكيت، في ظل بيئة نشر تجارية تهيمن عليها التوجهات الاستهلاكية.

يتكون الكتاب من 110 صفحات، تحتوي على 50 رسالة رفض متخيلة، كُتبت بروح ساخرة، موجهة إلى كتّاب عظماء مثل وليم شكسبير، فرجينيا وولف، مارسيل بروست، وأرنست همنغواي، حيث يعيد بوزي تخيل ردود دور النشر على أعمالهم لو قُدمت في زمننا المعاصر، مركزًا على متطلبات السوق الحالية وسلطة الذائقة التجارية التي تحدد ما يُنشر وما يُرفض.

بين الفن والسوق.. أيهما ينتصر؟

يمتاز أسلوب بوزي بالذكاء والطرافة، حيث يستخدم لغة مباشرة مليئة بالتلميحات الساخرة التي تعكس الواقع المزعج لصناعة النشر اليوم. يعتمد الكاتب على عبارات مألوفة في خطابات دور النشر، مما يجعلها تبدو وكأنها ردود حقيقية، فيضفي على النصوص حسًا فكاهيًا ممتعًا، لكنه في الوقت ذاته يكشف عن الإشكالية الجوهرية التي تواجه الإبداع الأدبي في عالم يخضع لحسابات السوق.

ترافق النصوص رسوم توضيحية أبدعها جيانكارلو آسكاري وبيا فالنتينيس، تضفي بعدًا بصريًا يعزز من تأثير النصوص الساخرة، فنرى مثلًا ألكسندر دوما "يحمل فرسانه الثلاثة على يده"، أو فرجينيا وولف وقد "نبت لها شارب".

يركز الكتاب على كيفية تفضيل صناعة النشر الحالية للمعايير التجارية على حساب القيم الأدبية، ما يجعل العديد من الأعمال العظيمة مهددة بالرفض لو طُرحت في هذا العصر. يسائل بوزي الدور الذي تلعبه دور النشر في تشكيل الذائقة الأدبية، ومدى تأثيرها في تحديد ما يستحق الوصول إلى القارئ وما يُستبعد لصالح التوجهات السائدة.

"ماذا لو قُدمت في عصرنا؟"

يتخيل بوزي، على سبيل المثال، أن دار نشر ترفض الإلياذة لهوميروس بحجة أنها "طويلة ومعقدة، وتتطلب اختصارًا لتتناسب مع تفضيلات القارئ العصري الذي يميل إلى القصص السريعة والمباشرة". كما يوجه رسالة إلى لويس كارول يخبره فيها أن "أليس في بلاد العجائب"" مجرد هراء لا جدوى منه، ولن يكون أكثر من مهزلة أدبية"*.

أما فرانز كافكا، فتطلب منه دار النشر تغيير عنوان التحول إلى "الرجل الذي استيقظ حشرة"! بينما يُقترح على ميغيل دي ثيربانتس نقل أحداث دون كيشوت إلى الغرب الأمريكي حيث المغامرات أكثر إثارة، واستبدال "طواحين الهواء" بعقبات أكثر درامية تلائم جمهور اليوم.

أما وليم شكسبير، فيُنصح بالابتعاد عن موضوع أوتيلو لأن "الإساءة للأقليات قد تثير الجدل، ومن الأفضل أن يلتزم بالملوك القساة والعشاق المعذبين، وهو مجاله المفضل أصلًا". فيما يُطلب من مارسيل بروست حذف الحوارات الفلسفية من روايته "بحثًا عن الزمن المفقود" لأنها "مثقلة بالتفاصيل التي لا يتحملها القارئ المعاصر".

حتى جورج أورويل لا يسلم من مقص دور النشر، إذ يُطلب منه تحويل 1984 إلى "رواية مغامرات أكثر إثارة، لأن الفكرة السياسية تفتقر إلى الواقعية". أما صمويل بيكيت، فتنصحه دار النشر بإيجاد نهاية واضحة لـ بانتظار غودو كي لا يربك القارئ.

ولا يتوقف بوزي عند هذا الحد، بل يذهب إلى أبعد من ذلك، موجّهًا رسالة رفض إلى "الرب" نفسه، يطالبه فيها بتوسيع السرد في العهد القديم قائلًا: "حبًّا بذاتكم، أضف بعض التوصيفات الحقيقية، فأسلوبكم مختصر أكثر من اللازم، كأنكم صامويل بيكيت! أطِل الحديث، توسّع في الشرح، عبّر عن ذاتك، أيها الرب".

سخرية تكشف واقع النشر

لا يكتفي بوزي بالتسلية، بل يستخدم السخرية كأداة نقدية تسلّط الضوء على واقع صناعة النشر الحديثة، حيث تتحكم المعايير التجارية في مسار الأدب. من خلال هذه الرسائل، يقدم بوزي محاكاة ساخرة تعكس كيف يمكن للأعمال الأدبية العظيمة أن تُرفض لمجرد أنها لا تتناسب مع متطلبات السوق، مما يطرح تساؤلات حول مصير الإبداع في عالم تتحكم فيه الأرقام والمبيعات أكثر من القيم الفنية.

"عزيزي الكاتب" ليس مجرد كتاب مرح، بل هو نقد لاذع لنظام النشر الحديث، وتذكير بأن الأعمال العظيمة لا تُقيّم وفق مزاج السوق، بل وفق قيمتها الأدبية الخالدة.