الفضول من تفاحة آدم إلى تفاحة نيوتن

السر جيمس فريزر يرى في غصنه الذهبي أن موكب الفضول قد استمر في سيره الصامت حتى استثار دهشة الساحر البدائي وحفزه على إيجاد حلول لمشاكل كان يتوقعها الإنسان.
ميسلون هادي
بغداد

ثمة نكتة شهيرة تقول إن رجلا كان يجلس عند رأس الجسر، وهو يردد بصوت عال الرقم "خمسة عشر" على نحو مستمر، وكان العابرون يمرون دون أن يأبهوا له، أو يهتموا بما يقول، ولكن واحدا من أولئك العابرين استبد به الفضول، وتملكته الحيرة عن السبب الذي يدفع هذا الرجل إلى ترديد الرقم "15" دون غيره من الأرقام فقرر أن يسأله:

● لماذا تردد الرقم "15" دون انقطاع؟؟

فما كان من ذلك الرجل إلا أن رماه في النهر، وبدأ يردد بصوت أعلى:

● ستة عشر.. ستة عشر.. ستة عشر.

إنها حكاية قد ينطبق عليها المثل القائل: "من تدخل فيما لا يعنيه لقي ما لا يرضيه"..

وربما يقول قائل إن بطل هذه النكتة لم يتدخل فيما لا يعنيه لكي يلقى ما لا يرضيه، بل أبدى فضولا مشروعا نمتلكه جميعا عندما يستوقفنا ما يثير الفضول.. أو يقول ثالث إن علينا أن نكبح مثل هذا الفضول ونتحكم به بالقطارة لنخرج بالكمية المفيدة منه للحياة، ولا نهدر قطرة زائدة منه في غير مكانها أو زمانها، حتى لا نلقى مصير السائل نفسه.

قول معقول ولكن! نحن نتحدث عن الفضول الإيجابي طبعاً، وليس عن شيء آخر، وبعض المهن يكون "الفضول" جزءاً لا يتجزأ من عامل الإبداع فيها كالفن أو الصحافة أو الأدب أو التصوير الفوتوغرافي، وبذلك تكون الدعوة إلى قمع الفضول أمرا في غير محله، لأنه في أحيان أخرى يكون سبباً لإنقاذ حياة أو مساعدة حالة حرجة.

الفنان نور الشريف مثلا يقول إنه مولع بمراقبة الناس في كل مكان، وإنه يعتبر هذا الفضول أمرا ضروريا للفنان الذي يريد أن يجسّد مختلف الأدوار على المسرح أو في السينما بإتقان وتميز.. المصوّر الصحفي المحترف أيضا يتسلح بالفضول من أجل الفوز بلقطة طريفة قد لا تخطر على بال المصوّر نفسه: ثقب في حذاء أمير، أو نائب يغط في النوم على مقاعد البرلمان.. لقطات عالمية شهيرة تكمن شهرتها في الطرافة التي تحققها المفارقة والصبر الذي يخلقه الفضول.

وللطقس علاقة؟

سألت زميلا صحفيا فيه قليل من الجد وكثير من الهزل إن كان يعتبر نفسه فضوليا فقال:

● تمر الأشياء أمام أنظارنا جميعا ولكن البعض منا يراها والبعض الآخر لا يراها.. وأنا أنظر إلى الأشياء التي تمر أمام عيني لكي أراها.. خصوصا عندما يكون الجو جميلا ومعتدلا.

التفاحة
هل أراد ستيف جوبز أن يحيلنا برمز التفاحة المقضومة إلى تفاحة الفضول الأولى؟

● وما علاقة الجو بالموضوع؟

● الجو الجميل يجعل الحالة النفسية رائقة.. ومن ثم فإن ذلك يجعلني أرى جيدا.

● كيف!؟

● أنا مثلاً لا أستطيع أن أكون فضوليا في ظهيرة تموزية، بل أكون قدرا مغليا يريد أن يصل بيته بأسرع وقت ليرفع عنه الغطاء ويبدد البخار المحتبس.. أما أيام الخريف فيحصل نوع من الدوار مرتبط بهذا الانقلاب الموسمي الكبير، فأصبح أكثر شاعرية وتأملا وتثير أبسط الأشياء فضولي وتستوقفني لكي أراها وأتمعن فيها.

● أبسط الأشياء مثل ماذا؟!

● أثمار الحمضيات.. وقطع الغيوم في السماء.. ورائحة الصباح الطازجة.. وطوابير النمل الجميلة.. وتوهج النار في المدفأة أو نقر الكعوب المدببة لأحذية النساء!!!

يا له من خليط غير متجانس لإثارة فضول صحفي هازل، ومع ذلك فالفضول يتخذ أشكالا متعددة مفيدة وضارة.. ملعونة ومطلوبة، فهو للطفل ممر إلى المعرفة وتعرض مباشر للخطر، وللباحث عن الحقيقة قنديل ضوء حتى في وضح النهار، وللأحمق العابث بالوقت لعنة عليه وعلى الآخرين.

والفضول أيضا هو أداة مهمة للأنثربولوجي والآثاري والعالم.. فقطعة الحجر التي قد لا تثير فضول أحد هي للآثاري مادة دسمة للنظر.. وما قد تعتبره أنت سُخفا أو هراء في السلوك البشري قد يكون للأنثربولوجي موضوعا غنيا للدراسة والتحليل، وما تمر أنت به مرور الكرام من ظواهر الطبيعة قد يكون للعالم مدعاة لوقفة طويلة من التأمل والمراقبة.. والتاريخ يخبرنا كم من الاكتشافات العلمية خرجت من رحم أكثر الأشياء مألوفية واعتيادا في حياتنا.. فنظرية أرخميدس خرجت من الحمام، واختراع القاطرة البخارية خرج من المطبخ، وقانون الجاذبية خرج من حديقة المنزل.. ولا أحد يعلم على وجه الدقة أو التخمين كم مليونا من البشر عبر العصور قد رأى مشهد سقوط التفاحة من الشجرة دون أن يطرأ على بال واحد منهم أن يسأل:

● ولكن لماذا لا تسقط التفاحة إلى أعلى!؟

حتى جاء السيد نيوتن فحوّل بعينيه النهمتين ذلك المشهد العادي "جدا" إلى واحد من أكثر القوانين الكونية المكتشفة أهمية في عصرنا الحالي.

شجرة التفاح
جد البشر آدم لا يُذكر إلا وتذكر معه التفاحة المحرمة التي أثارت فضول حواء فأخرجتهما من الجنة..

بديهيات ولكن!

جد البشر آدم لا يُذكر إلا وتذكر معه التفاحة المحرمة التي أثارت فضول حواء فأخرجتهما من الجنة.. "تفاحة آدم" هي أيضا الاسم المعروف للنتوء الكبير الذي يتحرك في رقبة الرجل عندما يشرب من زجاجة الماء، وشاعت تسميته بتفاحة آدم في إشارة للقصة التوراتية التي تقول إنه عندما أكل آدم من الشجرة المحرمة عليه في الجنة، علق جزء من التفاحة في حلقه.

أقدم المهن جميعا على هذه الأرض ألا وهي الطفولة لا تذكر إلا ويذكر معها الفضول.. وفضول الأطفال هو أكثر أنواع الفضول لجاجة في العالم.. وليس أكثر إزعاجا إلى الأب أو الأم من طفل يتملكه الفضول حول بديهية ما، فيتحول إلى ذبابة تظل تحوم حول ذلك الشيء البديهي وما تنفك تعود إليه مهما (كششتها) عنه. البديهيات التي تثير فضول الأطفال لا تعد ولا تحصى: لماذا القمر أبيض، والشمس تشرق وتغيب، والليل يأتي ويروح، والقطة لا تتكلم، والنجوم لا تسقط، والإنسان يموت، والبذرة تنمو وتثمر.

وأسئلة الصغار دائما أكبر من أجوبتنا وأشد براءة وصدقا منها.. إنها المفاتيح الأولى للمعرفة.. وتعاملنا مع ذلك الفضول لا تزال تنقصه الأمانة والصبر بدعوى الخجل أو العيب أو ضيق الوقت.. كما أننا قد نحبطه بالاستخفاف أو الضيق به في الوقت الذي يتوقف على استجابتك لفضول طفلك، وتفاعلك مع أسئلته الكثيرة، مديات حيويته الفكرية وإرهاصات تلوّن مخيلته، ومع ذلك فإجابة فضوله يجب أن لا يكون هو الإسفنجة التي تمتص انبهاره بهذا العالم، وهو يلامس أسراره أو يدشنها بحواسه لأول مرة.

مسيرة الفضول

يرى السر جيمس فريزر في غصنه الذهبي أن موكب الفضول قد استمر في سيره الصامت بين الظل والنور والغمام وضوء الشمس عبر الأرض، فخواص العقاقير والمعادن وأسباب سقوط المطر والرعد والبرق وتغير الفصول وأوجه القمر ومدار الشمس اليومي والسنوي وحركة النجوم وسر الحياة والموت وأسرار الظواهر الطبيعية.. كلها أشياء استثارت فضول ودهشة الساحر البدائي وحفزته على إيجاد حلول للمشاكل التي كان الإنسان البدائي يتوقعها، بل ويطالب الساحر في كثير من الأحيان بالتحكم فيها لصالح الإنسان.

ونحن الآن ننظر إلى الآراء التي اعتنقها الإنسان البدائي على أنها خاطئة وسخيفة، ومع ذلك فإن تلك الافتراضات كان معترفا بها في حينها، وهي التي مهدت الطريق إلى النتائج الباهرة التي توصل إليها الباحثون في الطب والجراحة والكيمياء والفيزياء وكل فرع من فروع العلوم الطبيعية. منذ العصور التي تلت أولئك الرجال الأوائل وحتى الآن. وأشهرها تفاحة آبل ماكنتوش "المقضومة" التي نراها على الكثير من اللابتوبات، وهي الرمز الذي اعتمده ستيف جوبز لشركته المعنية بالتكنولوجيا، فهل أراد بها أن يحيلنا إلى تفاحة الفضول الأولى؟.