القرن الحادي والعشرين.. رؤية في الدين والاقتصاد

وفقاً للحاكمية إن الأمر الإلهى له سلطان مطلق على جميع الأفراد وعلى الحكومة الاسلامية والفقيه العادل من واجبه تنفيذ شريعة الله لأنها هى الحاكم الحقيقي من ثم يكون فصل الدين عن الدولة وحدَ الدين بنسق من العبادات والشعائر أمر غريب على روح الإسلام وتعاليمه.

بقلم: مراد وهبة

عنوان هذا المقال هو عنوان ندوة عقدتها فى 13/ 2/ 1985 دعوت إليها تسعة من المختصين المرموقين وكان بينهم أصوليان اسلاميان. إلا أن هذا العنوان لم يكن وليد الندوة، بل كان وليد افتتاحية لـ «ملحق الفلسفة والعلم» بمجلة الطليعة التى صدرت فى يناير 1965 وكان صاحب الامتياز هو الرئيس جمال عبد الناصر. وكان عنوان الافتتاحية «التتارية والفكر المستورد» فى ديسمبر 1974، وجاء فيها أن ثمة ظاهرة طافية على سطح مجتمعنا المصرى على التخصص ومجتمعنا العربى على الإطلاق فى حاجة إلى تحليل وتأويل، وهى ظاهرة ثنائية البُعد: بُعد اقتصادى وبُعد أيديولوجي.

البُعد الاقتصادى يتمثل فى بزوغ «رأسمالية طفيلية» من دلالتها تجار الخلسة فى سوق الاستهلاك الذين يغرقون الأمة بسلع الترف المستوردة، بالمشروع وغير المشروع. والبُعد الأيديولوجى يدور على خطر ما يسمى الفكر المستورد بدعوى الحفاظ على القيم والتقاليد وما ورثناه عن الأقدمين. ومحصلة البُعدين تتارية بالضرورة، والمقصود بها ما هو مأثور عن التتار أنهم التزموا أمراً واحداً: تدمير حضارة الانسان.

فى عام 1977 ألقيت بحثاً فى ندوة بجامعة عين شمس وكان عنوانه «رؤية إسرائيلية لمستقبل المنطقة بعد حرب أكتوبر» جاء فيه أن ثمة تيارات ثلاثة بزغت فى الوطن العربى وهى على النحو الآتي: التيار التترى الذى يشكك فى قدرة العقل ويحتقر العلم ومن ثم فإنه ينبذ الحضارة. والتيار اللاثورى الذى يحذف ثورة يوليو بدعوى تدميرها لنفسية الإنسان العربي، ومن ثم يدعو إلى العودة إلى ما قبل الثورة. التيار الثالث هو التيار اللاعلمانى الذى يكفر العلمانية ويدعو إلى الأصولية، وفى سياقه اشتعلت الثورة الإيرانية معلنة تأسيس نظام إسلامى يقف فى مواجهة كل من النظامين الرأسمالى والشيوعي.

صدر كتاب لآية الله الخمينى عنوانه «الحكومة الاسلامية» ويدور على ثلاثة محاور: الحاجة إلى ربط السلطة السياسية بالأهداف الاسلامية، وتأسيس دولة الفقيه، وبرنامج عملى لتأسيس الدولة الإسلامية. تدور هذه المحاور الثلاثة على فكرة محورية هى أن الأمر الإلهى له سلطان مطلق على جميع الأفراد وعلى الحكومة الاسلامية، والفقيه العادل من واجبه تنفيذ شريعة الله لأنها هى الحاكم الحقيقي. من ثم يكون فصل الدين عن الدولة، وحدَ الدين بنسق من العبادات والشعائر أمر غريب على روح الإسلام وتعاليمه. فى هذا السياق يمكن القول إن فكر الخمينى يمثل الأصولية الإسلامية على الأصالة.

الجدير بالتنويه أن الأصولية فى الدين هى اليمين الراديكالى فى السياسة ومنهما ينشأ ما يسمى باليمين الجديد. وكان الكتاب المعتمد هو كتاب المفكر الأمريكى رسِل كيرك المعنون «العقلية المحافظة». وهذه العقلية متمثلة فى الفيلسوف الايرلندى ادموند بيرك الذى كان عدواً للثورة الفرنسية عند اشتعالها فى القرن الثامن عشر لأنها كانت تستند إلى مُثل التنوير التى هى مهددة لفكر المحافظين الذى يرى أن الدولة والكنيسة كيان واحد. وفى القرن العشرين تأسس الحزب الأصولى المسيحى تحت عنوان «الغالبية الأخلاقية» بقيادة القس جيرى فولول الذى يعتبر نفسه تلميذاً لبيرك.

تكمن المسألة بعد ذلك فى البحث عن الطبقة الاجتماعية التى تدخل فى علاقة عضوية مع الأصولية الدينية، وهو بحث لازم من اللزوم القائم بين الدين والاقتصاد، وليس فى الإمكان معرفة هوية هذه الطبقة الاجتماعية إلا إذا عرفنا علاقة الأصولية الدينية بالعلم. ودليلنا على صحة هذه المعرفة هو فكر سيد قطب وبالذات فى كتابه المعنون «المستقبل لهذا الدين». ففى رأيه أن عصر النهضة وعصر التنوير وعصر الثورة الصناعية قد صرفت أوروبا عن منهج الله كله فتم الانفصال بين التصور الاعتقادى الإلهى ونظام الحياة الاجتماعية، ومن ثم أصيب العقل الأوروبى بمرض اسمه «الفصام النكد» وهو يعنى الانفصال عن الواقع والتجول فى عالم الخيال والوهم.

يترتب على ذلك أن الثقافة الأوروبية ثقافة مريضة، وبالتالى إذا أردنا ثقافة صحية لها فيلزم إقصاء هذه العصور الثلاثة، وتحويل الرأسمالية المتنورة المستندة إليها إلى رأسمالية خالية من العقل والعلم، أى «رأسمالية طفيلية» تقتات مما هو ضد العقل وضد العلم، أى تقتات من كل ما يغيَب العقل.

لم يكن أمامنا لتغييب العقل سوى المخدرات وما يلازمها من تقوية للشهوات والأهواء ومن ثم نشأت السوق السوداء بديلا عن سوق الدولة. كان من شأن ذلك كله أن بزغت ظاهرة جديدة هى ظاهرة «رجل الشارع المليونير»، والمعنى أنه فى إمكان رجل الشارع أن يمارس عملية تراكم رأس المال بلا انتاج، وتأتى تجارة المخدرات فى مقدمة هذه العملية.

لا أدل على صحة ذلك القول من أن الفرق العسكرية السوفيتية الراحلة من أفغانستان فى أثناء الحرب المشتعلة بينهما إلى موسكو قد عادت مصابة بعادة تعاطى المخدرات، وكانت الطائرات الباكستانية المحملة بالأسلحة والمتجهة إلى أفغانستان تعود محملة بأطنان من الهيروين الأمر الذى أدى إلى إصابة مليونى ونصف مليون باكستانى بعادة تعاطى ذلك المخدر. وفى مصر تلاحمت الرأسمالية الطفيلية المتمثلة فى شركات توظيف الأموال وفى مقدمتها شركة الريان مع الأصولية الإسلامية. وكان الريان فى حينها سلطة تماثل سلطة الدولة. وعندما طٌبعت أبحاث الندوة ونُشرت على هيئة كتاب عنوانه «الدين والاقتصاد» نما إلى علمى أن إحدى المؤسسات الدينية شكلت لجنة ثلاثية لإبداء الرأى فأوصت اللجنة بضرورة إحالتى إلى نيابة أمن الدولة بسبب عبارة وردت فى بحثي. وعندما سألت صاحبة الدار التى نشرت الندوة عن مدى صحة الخبر جاء الجواب بالإيجاب إلا أن مؤسسة أخرى تدخلت وألغت الإحالة.

حدث ذلك فى القرن العشرين فماذا حدث للعلاقة بين الاقتصاد والدين فى القرن الحادى والعشرين؟