القضاء اللبناني يواجه في عقر داره

القضاة اللبنانيون، قبل الناس، يتحدثون عن قضاة فاسدين، وإدارة فاسدة، وطبقة سياسية فاسدة، ورجال أعمال ومصرفيين فاسدين.
صار الضغط السياسي على القضاة أقوى من الرشوة المالية
إذا كان الناس مستائين من القضاء، فلأنهم أحبوه وراهنوا عليه
الفساد يتوسع كالورم ويشظي محيطه ويسيء إلى الجسم القضائي

اعترى القضاء اللبناني ما اعترى لبنان: اعتداء مزدوج المصدر من خارج السلك القضائي ومن داخله. ونشأ تواطؤ بين المصدرين حيث قضاة مسيسون وطائفيون وفاسدون يعملون لمصلحة المصدر الخارجي، وينفذون من الداخل أوامره، بل مؤامرته على القضاء اللبناني. والخطورة هنا مثلثة: الأولى أن الذين يقومون بهذه الـمهمة ليسوا قضاة صغارا في محكمة ريفية، إنما قضاة كبار يشغلون مناصب رفيعة في تراتبية السلطة القضائية. والثانية أنهم يدرون ماذا يفعلون، ويرتكبون فعلتهم عن سابق تصور وتصميم، ما يجعل فعلتهم مزدوجة: فساد وخيانة. والثالثة أن الانقسام في القضاء، وبخاصة على مستوى مجلس القضاء الأعلى والنيابات العامة، يأخذ طابعا طائفيا ومذهبيا يعطل عمل القضاء على غرار تعطيل عمل مجلس الوزراء. هل يريدون أن يصبح القضاء أيضا فدراليا؟

صارت أمراض القضاء اللبناني مـجسما عن أمراض دولة لبنان: كانتونات مذهبية. مس باستقلاليته من دون حسم. ازدواجية القرار. مخالفات من دون تأديب. تمرد من دون إقصاء. ولاء لقوى خارج السلك القضائي. تعدي قضاة على صلاحيات زملائهم. تلاسن يفيض وقاحة وحقدا. إبدال الـمطرقة بالقدم. قضاة ضد قضاة. محكمة ضد محكمة. مرؤوس ضد رؤسائه. خطوط تماس بين المرجعيات القضائية ووزارة العدل. وجفاء بين القضاء والسلطة الحاكمة، إلخ...

كان فساد القضاء سببا أساسيا في انهيار الإمبراطورية الرومانية بعد قرون من المجد. ووجه الشبه بين روما ولبنان ـــ وهو محصور بفساد القضاء ــــ أن مسؤولي روما، السياسيين والعسكريين، أضروا بالقضاء الروماني أكثر مما أضر به الفساد المادي. وكانت السلطة السياسية هناك ترفع القضاة الفاسدين عوض معاقبتهم ما أثار الخطيب الروماني الشهير شيشرون (106/43 ق.م.)، فوضع مرافعاته ضد القضاة والحكام الفاسدين بين محاكم صقلية وروما.

هذا "المحضر الاتهامي" لا يطال الجسم القضائي عموما، ففي بلادي قضاة يشرفون الشعب والوطن، وفي طليعتهم رئيس مجلس القضاء الأعلى سهيل عبود الذي يتميز بفائض نزاهة ووطنية. وهؤلاء القضاة الشرفاء يشكون من زملائهم المنحرفين مثلما يشكو منهم الشعب، إذ إن الفساد يتوسع كالورم ويشظي محيطه ويسيء إلى الجسم القضائي لأنه يصعب على المواطن العادي التمييز بين قاض وآخر، وبين القاضي والقضاء.

لا يقتصر مفهوم "القناعة الحميمة" على القاضي، بل يشمل الرأي العام حيال القاضي أيضا. لدى غالبية الشعب اللبناني قناعة حميمة ـــ وعلنية ـــ بأن جرثومة الفساد السياسي والأخلاقي والمالي امتدت إلى شريحة مكعبة من القضاة، فصاروا كمائن للأبرياء ومهارب للمتهمين. مهنية القاضي أن يقرأ قانون الأحكام بضميره لا بعينيه فقط. الضمير هو ميثاق العدالة مع الحق. لكن القضاء عندنا صار يعكز على بقايا ضمير، يتوكأ على بقايا قوانين، أمام بقايا شعب يلملم بقايا وطن.

الخوف من جنوح ضمير القاضي، دفع بالمشرعين الفرنسيين الذين وضعوا القانون الجزائي سنة 1791، إثر الثورة، إلى الحرص على أن تكون الكلمات واضحة ومحددة ولا لبس فيها، لئلا يفسرها القاضي على هواه، وللحد من اللجوء إلى الاجتهاد بغية الالتفاف على النص. يومها قال ميرابو إن القاضي يطبق النص من دون تفسيره وإلا يصبح مشرعا"!

برزت في لبنان ظاهرة خطيرة قلما عرفتها المجتمعات الحديثة، وهي جفول الناس عن مؤسسة القضاء والنفور منها والاتجاه إلى معارضتها كأنها حزب أو فريق. بموازاة ذلك، انكشفت ظاهرة أخرى أشد خطورة من الأولى وهي أن قوى عسكرية/دينية تنكر الدولة وقضاءها، أكان عادلا أم ظالـما، تفتي ذاتيا بالحق ولو كان باطلا وبالباطل ولو كان حقا. بتعبير آخر، بعد أن أجهضت هذه القوى حكم الشعب الصادر عن الانتخابات النيابية، تسعى الآن إلى إجهاض الحكم الصادر باسم الشعب عن القضاء.

صار الضغط السياسي على القضاة أقوى من الرشوة المالية، وصارت المرجعيات الشرعية الدينية تحدد المحكمة التي يجب أن تحال إليها هذه القضية أو تلك، والقاضي الذي يجوز له التحقيق. مهزلة في واقع درامي. وكان ينقص درامية الرقص على قبور شهداء المرفأ، محامون انـبــروا، يدافعون عن أشخاص ضد شعب، وتباروا في الطعن بعمل القضاء ومرجعيته بوقاحة معيبة بحقهم وبحق موكليهم.

لذلك يفترض بالشعب اللبناني أن يدافع عن مؤسسة القضاء المستهدفة. فدولة فيها قضاء نزيه وشجاع وناشط، فيها كل شيء، ودولة فيها كل شيء وليس فيها قضاء نزيه، ليس فيها شيء. لا بل إن قضاء ينشر العدالة يغني عن المؤسسات الأمنية، لأن العدالة هي الأمن.

لكن أين العدالة في بلادي؟ القضاة، قبل الناس، يتحدثون عن قضاة فاسدين، وإدارة فاسدة، وطبقة سياسية فاسدة، ورجال أعمال ومصرفيين فاسدين، ولا نرى أحدا من هؤلاء خلف القضبان. لا يحتاج القضاء إلى قرار سياسي أو أمر عسكري ليتحرك. هو القرار والأمر والحكم.

إذا كان الناس مستائين من القضاء، فلأنهم أحبوه وراهنوا عليه ليكون رأس الحربة في مكافحة الفساد وفي التغيير الوطني، خصوصا بعدما تعثرت الانتفاضة الشعبية. لكنهم صدموا بتعثر القضاء أيضا، وبقضاة يشكلون امتدادا للطبقة السياسية في الجسم القضائي. إن اللحظة مناسبة لينتفض القضاء على ذاته وعلى الجماعة السياسية فيستعيد المبادرة وثقة الشعب.

استعادة القضاء استقلاليته تبدأ بما يلي: 1) إعداد تشكيلات قضائية جديدة لا تبالي برأي القوى السياسية والطائفية. 2) تثبيت القضاء العدلي مرجعا صالحا للتحقيق الكامل في جريمة تفجير المرفأ. 3) وضع الأجهزة الأمنية والعسكرية أمام مسؤوليتها في تنفيذ الاستدعاءات القضائية والأحكام. 4) تطهير القضاء من القضاة المتورطين في الفساد على أنواعه. 5) الحد من اختلاط القضاة بالمجتمعين السياسي و"الموندان"، واتباع نمط حياة ملائم رسالة القاضي. 6) مواصلة السعي لإقرار التشريعات الضرورية لتعزيز استقلالية القضاء عن السلطتين التشريعية والتنفيذية...

"استل الـمطرقة يا عبود"...