المثقفون ومخاطر الاستبداد وأساليب الهيمنة على عقول البشر

لم يعد الحكام الدكتاتوريون، ومن ينصبون أنفسهم زعماء وقادة حركات وأحزابا سياسية، هم من يمارسون الاستبداد والطغيان على بني جلدتهم والشعوب الأخرى. بل أن الاستبداد متأصل في الشخصية الإنسانية بشكل عام والشخصية العراقية بشكل خاص، وهي التي تمارس طغيانها وهيمنتها على الآخرين بوسائل شتى.

ويعد المثقفون بمختلف أصنافهم ومشاربهم، الفئة الاكثر ممارسة للاستبداد والطغيان، ومحاولة فرض هيمنتهم على الآخرين، وبينهم من يعد نفسه على أنه فوق خلق الله أجمعين.

ويبرر كثير من المثقفين طابع استبدادهم وطغيانهم على الآخرين من أنهم صفوة المجتمع وهم من امتلكوا زمام الثقافة والمعرفة، ولهذا يجوز لهم التسلط على عموم الجمهور، الذي ينظرون على أنه أقل ثقافة منهم.

بل أن بعض المثقفين من الكتاب من راح يمعن في استبداده وطغيانه على بني جلدته، بأنه ربما يزعم أنه مكلف من الله بأن له حق الوصاية على الآخرين. وآخرون منهم لا يؤمنون حتى بالله وربما يعدون رب السموات واحدا منهم، وهو لا يزيد عنهم ربما الا في بعض درجات الأعلمية.

وفي العراق يبدأ الاستبداد من العائلة. فالأب يمارس سطوته على عائلته، والمرأة أحيانا تمارس هي الاخرى سطوتها على زوجها أو أبنائها. ويتبادل الرجل والمرأة الأدوار وسمات الاستبداد على أفراد العائلة، وحتى على بعض الأقارب، اعتقادا منهم أن الله أوكل لهم مهمة فرض وجهات نظرهم على الآخرين.

ثم ينتشر الاستبداد على نطاق واسع في المدرسة والجامعة وفي الخدمة العسكرية وفي الوظيفة وفي مواقع العمل والانتاج. وكل تلك المراحل يمر فيها الفرد بفترات استبداد، تختلف من مرحلة الى أخرى، لكن طابع الهيمنة واحد وان تعددت أشكاله.

ورجال الدين يمارسون هم الآخرون طغيانهم على قطاعات واسعة من البشر، بعد ان يدعون أن الله هو من كلفهم بالنيابة عنه في استعباد الآخرين وسلب عقولهم وان يدينوا له بالولاء. وبعضهم يعد نفسه فوق مستوى الألوهية إن كان من الزعامات التي إستطاعت حشد اعداد كبيرة لها من الاتباع. وكثير منهم يزعمون انهم خلفاء الله في الارض، ومن يمارسون طقوس العبادات وفرض انفسهم بالترغيب والترهيب لكي يتحكموا بمصائر البشر ومستقبل اجيالهم وهم إما ان يقودوهم الى الجنة او النار.

والقاضي يمارس طغيانه على بني البشر وهو تحت سلطة القانون وبإسمه يفرض هيمنته، على الآخرين سواء تطابقت مع قوانين الارض والسماء أم لم تتطابق.

بل انه حتى في الحب الذي هو أسمى معاني القيم الرفيعة، فبعض المحبين يمارسون طغيانا على حبيباتهم، بطريقة مذلة، تؤدي الى انقياد أعمى، ومن ثم تكتشف ان الحبيب المنتظر هو ليس من تلك السمات المحببة التي تمنتها الحبيبة في مخيلة أفكارها، ولم يعد فارس أحلامها كما كانت تتصور، إن لم ينقلب عليها وبالا بعد أن تتزوج منه.

وفي أحيان أخرى تمارس الحبيبة طغيانها على حبيبها، وتتخذ من بعض سمات جمالها وقوة شخصيتها وسيلة للاستفراد بالحبيب وفرض سطوتها عليه، لكي ينقاد لها كالأعمى، ويسلم لها الراية دون منازع.

أما على مستوى السلطة فرئيس الجمهورية او رئيس الوزراء او الملك او السلطان او المستشار فهو الحاكم بأمر الله، وكلهم يمارسون الطغيان على شعبهم، وان كان هناك اختلاف في درجة فرض التسلط والهيمنة، لكن المشتركات بينهم تكاد تكون واحدة في الأغلب. والشعب عادة يكون هو الضحية لاستبداد الحاكم، والمسؤول، حتى في ظل وجود انظمة ديمقراطية، أما الأنظمة التي تسمى بالدكتاتورية فتمارس سلطاتها الاستبدادية على أوسع نطاق.

لكن الغريب أن المثقفين او من يعدون انفسهم من الطبقات العليا في المجتمع، يمارسون طغيانا أكثر مساحة وأكثر تأثيرا، وربما يفوق طغيانهم حتى تسلط الحكام ورجال الدين. وهم ينظرون الى العامة على انهم من سواد البشر، وان الاقدار اعطت هؤلاء الحق في فرض وصايتهم على من هم دونهم في الثقافة او حتى على مستوى من يقاربهم في الثقافة ومستوى الوعي.

بل أن الشقاوات وبسبب جهلهم وتدني ثقافتهم ومكانتهم، فقد وجدوا أن أميتهم وجهلهم تحرمهم من كثير مما يحلمون، لهذا فهم وجدوا في القوة الجسمانية التي يمتلكونها الحق في الهيمنة على الآخرين. وهم ربما اكثر خطرا من هيمنة وتسلط المثقفين كونهم هم من يفرضون الان سطوتهم على مناطقهم، ويعدون المثقفين أعداء محتملين ينبغي إزاحتهم من طريقهم إن أرادوا إبقاء هيمنتهم لأطول فترة ممكنة.

أما المغلوب على أمرهم من عامة الناس وفقرائهم ومستضعفيهم، فهم الطبقة المسحوقة ممن يبقون مادة كل دعاية تحرك أهواءهم وتستغلهم أبشع استغلال، لخدمة مآرب هذه الجهة او تلك، وهم المغفلون والأتباع الذين يريد الآخرون أن يمارسوا عليهم سطوتهم وطغيانهم، وهم وقود كل نماذج التسلط والاستبداد والهيمنة التي يحاول الآخرون فرض إتاواتهم وافكارهم ورؤاهم عليهم، حتى وان كانت بأدنى مستويات السلوك المنحط، وخلافا لقوانين الأرض والسماء، وهم من يبقون من يحترق بلظى نار الدنيا، هذا إذا لم تتلقفهم ملائكة السماء لتلقيهم في أتون نار جهنم، بعد إن إضطر كثيرون منهم ربما الى ارتكاب موبقات أو جرائم، خلافا لرغباتهم، ولأن الدنيا لم تمنحهم فرصة إظهار طاقاتهم وإثبات وجودهم الانساني، وتحقيق حد أدنى من كرامتهم، وحرموا من كثير من نعم الدنيا، وهم يبقون في كل الأحوال مظلومين في الدنيا وربما في الآخرة، لكن رحمة رب السموات هي من تشفع للكثيرين منهم، وتحفظ لهم أقدارهم وكراماتهم بكل تأكيد.

أما من يخرج عن القيم والأخلاق والمثل العليا، ويضرب بها عرض الحائط، فقد يسلم نفسه للأقدار وهي من تترحم على أحوال الكثيرين منهم..فأما أن يكون طريقهم الى الجنة..أو أن يتلقفهم سدنة النار ليلقوا بهم في أتون جهنم غير مأسوف عليهم.

والخلاصة من كل هذا أن الاستبداد وفرض الهيمنة وممارسة الطغيان تشترك فيها جماعات مختلفة، كل يمارس من جانبه طبائع الاستبداد والتسلط، على طريقته الخاصة، التي تتناسب وحجم سطوته في هذه الدنيا.