المصري وشمسه المغربية

تكررت الزيارات واللقاءات والمشاركات الأدبية والثقافية والإعلامية في ذلك البلد المضياف، وتنوعت المدن بعد ذلك.

منذ أن درست في المدرسة الإبتدائية (أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات من القرن الماضي) وعرفت أن مضيق جبل طارق يفصل بين كل من المغرب وإسبانيا، وأنه كان نقطة عبور العرب والمسلمين إلى الأندلس، وأنه الحد الفاصل بين البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلنطي، وأنا تمنيت أن أرى وأشاهد وأتجول في تلك البلاد العربية المغربية البعيدة التي تمثل نهاية المتوسط، وأتمثل ما قيل حول فتح العرب للأندلس التي مكثوا فيها ما يقارب ثمانية قرون.

ولم يتحقق هذا الحلم إلا في عام 2009 حينما وجهت دارة الشعر المغربي في فاس برئاسة الشاعرة فاطمة بوهراكة دعوة لي لحضور تدشين الموسوعة الكبرى للشعراء العرب، فقلت أخيرا سيتحقق الحلم وأرى المملكة المغربية وأشاهد مضيق جبل طارق ولو من الطائرة، ولعل الحظ يحالفني وأعبر منه إلى بلاد الأندلس كما فعل أجدادي، وإن كان البقاء في فاس المدينة العلمية التي تحتضن جامع وجامعة القرويين التي حدثتنا عنها كثيرا الدكتورة عائشة عبدالرحمن (بنت الشاطئ) أثناء عملها هناك، كان هدفًا في حد ذاته أيضا.

حاولت أن أؤرخ لأول رحلة لي للمغرب بعد أن كنت أتابع حفلات العندليب عبدالحليم حافظ بها، وأتذكر الصداقة التي ربطته مع الملك الحسن الثاني، فجعله العاهل المغربي مستشارا فنيا له. وبدأت أدون وقائع الرحلة منذ أن حصلت على التأشيرة المغربية من القنصلية المغربية بالقاهرة، بعد أن ترددت على مبنى القنصلية بالزمالك، أربع مرات في سفر أسبوعي ما بين الإسكندرية والقاهرة، إلى أن حصلت عليها، قبل وقفة عرفات بيوم واحد، وانفجار شوارع القاهرة بالناس، وكأنهم فجأة اكتشفوا أن غدا وقفة عيد الأضحى، فكان من الصعوبة الحصول على وسيلة مواصلات للعودة إلى الإسكندرية. وقررت أنه إذا كُتبت لي العودة في اليوم نفسه أن أزور "سوق المغاربة" في حي المنشية بالإسكندرية. وقد كان.

في سوق المغاربة تذكرت أقطاب الصوفية الذين جاءوا من الأندلس والمغرب واستوطنوا الإسكندرية، وعاشوا فيها بقية حياتهم من أمثال سلطان الإسكندرية سيدي المرسي أبوالعباس، وسيدي محمد الشاطبي، وسيدي جابر الأنصاري، وسيدي بشر الجوهري.. وغيرهم.

على قدر المسافة الطويلة التي قطعتُها من الإسكندرية إلى مدينة فاس المغربية، ومشقة السفر، جاءت سعادتي بصدور الجزء الأول من الموسوعة الكبرى للشعراء العرب والذي جاء في 1024 صفحة، واشتمل على سير ذاتية وقصائد وصور لألف شاعر وشاعرة يكتبون الشعر الفصيح بكل أشكاله، من أنحاء الوطن العربي (1956 ـ 2006). كان نصيب الشعراء المصريين فيها 174 شاعرا وشاعرة.

وكان المكسب الحقيقي لتلك المشاركة هو تعارفي على شعراء ونقاد جدد لم أزل أتواصل معهم حتى الآن من أمثال: د. مصطفى شميعة، ود. عمر علوي المراني، ود. أنوار بنيعيش وغيرهم، وفي زيارات تالية تعارفت على الناقد الدكتورة فاطمة الدناي التي كتبت دراستين طويلتين عن رواية "الماء العاشق" وديوان "اختبئي في صدري" وصدرت الدراستان في كتاب يحمل عنوان "الاختباء في الماء".

قبل كل هذا كانت هناك رسائل متبادلة بيني وبين مجموعة شعراء من مدن مختلفة بالمغرب، أذكر منهم: محمد علي الرباوي، وحسن الأمراني، وغيرهما وكانت بعض الرسائل تحمل بداخلها أعمالا ودواوين شعرية أسعد بقراءتها وأحيانا بالكتابة عنها. وأتذكر أنني كتبت دراسة عن "بحر الطويل في إحدى قصائد الرباوي التفعيلية" ونشرت الدراسة في مجلة "إبداع" المصرية. كما كانت تصلني مجلة تصدر هناك وتحمل عنوان "المشكاة". وعندما وضعت "معجم شعراء الطفولة في الوطن العربي خلال القرن العشرين" كان هناك ذكر لعدد من شعراء المغرب الذين كتبوا شعرا للأطفال أذكر منهم: أحمد عبدالسلام البقالي، وعلال الفاسي، وعلي الصقلي، ومحمد المختار العلمي.

غير أنني فُتنت برواية تحمل عنوان "المصري" للروائي والأكاديمي المغربي د. محمد أنقار، دهشت أولا لعنوانها وأنها لمبدع مغربي يكتب عن "المصري"، وعرفت أن المقصود بالمصري هو الروائي الكبير نجيب محفوظ، المثل الأعلى للساحلي الذي أطلق عليه لقب المارد المصري. لقد قرأ الساحلي كل أعمال محفوظ، وافتُتن بها وتمنى لو يكتب عملا يخلِّد به مدينته تطوان، مثلما خلَّد محفوظ بعض حواري وأزقة القاهرة في إبداعاته المختلفة. وكان الساحلي يتساءل "ما الذي انفرد به نجيب محفوظ حتى ألمَّ في رواياته بتفاصيل القاهرة وأزقتها وملايين بشرها وأصناف عاداتها وآلاف مشاكلها وأحلامها؟".

لقد تماهى الساحلي مع شخصيات روايات نجيب محفوظ، لدرجة أنه حدَّث أمه ذات يوم عن رغبته في الزواج من عايدة إحدى بطلات الثلاثية.

يقول الراوي: "وصل بي الهيام إلى درجة أني فاتحت أمي في موضوع الزواج من عايدة. فابتهجت العجوز للخبر وسألت:

ـ ومن تكون عايدة..؟

ـ فاتنة مصرية حلوة وثرية.. لكن المصيبة أنها متزوجة!

ويمتقع وجه الأم من جراء خيبة الأمل. ويجيب الابن:

ـ عشقي في عايدة بنت آل شداد المصونة في العباسية، وليس في سواها من النساء.

فتنتفض الأم واقفة:

ـ لن أُفاتح أحدًا بهذه الحماقات، وإلا أصبحنا أضحوكة".

وعندما يتزوج الساحلي من رقية، ابنة خالته، وينجب أولادا، يختار للأول اسم نجيب، والآخر كمال، إشارة إلى نجيب محفوظ، وكمال عبدالجواد أحد أهم شخصيات الثلاثية.

ليس نجيب محفوظ فحسب، ولكن هناك أيضا أم كلثوم وأغانيها التي كثيرا ما يحب الراوي أو السارد سماعها.

إن الساحلي عندما يتحدث عن نجيب محفوظ وأعماله، فإنه إسقاط على مهمة الكاتب إزاء المدينة التي يعيش فيها، فذكر القاهرة، وحضورها الطاغي عند محفوظ، يمثل الرغبة الحقيقية في حضور تطوان لدى الساحلي، أو إن شئنا الدقة لدى الكاتب محمد أنقار نفسه.

وكنت قبل ذلك قرأت الحوار الطويل الذي أجراه الناقد المغربي الدكتور محمد برادة مع نجيب محفوظ ونشر في مجلة "الناقد" اللبنانية ديسمبر/كانون الأول 1989 تحت عنوان "نجيب محفوظ معه وعنه". وفيه يصف محفوظ بأنه الصوت الذي يلتقط الهواجس وذبذبات الضمير ليصوغها في تخييلاته المتطورة على إيقاع تطور الصراعات وتوالد اللحظات الرومانسيكية المتشابكة. وبقدر ما كان يزداد شعورُنا بانسداد الآفاق، بقدر ما كان يعظم انتظارنا لما سينسجه قلم محفوظ. تعودنا ردود فعله، جرأته وقلقه ونبشه في السريرة وداخل شرنقة المجتمع.

ويرى براده أن محفوظ نجح في أن يجعل من أعماله مرصدًا للرأي العام، وأيضا مجالا لطرح أسئلة عن أسرار الوجود وعن علائقنا بالجنس والموت والدين.

وفي زيارة تالية للمغرب سعدت بتدشين روايتي الأولى "رئيس التحرير.. أهواء السيرة الذاتية" من خلال ندوة أدبية علمية في مدينة فاس، ثم تكررت الزيارات واللقاءات والمشاركات الأدبية والثقافية والإعلامية في ذلك البلد المضياف، وتنوعت المدن بعد ذلك، فلم تقتصر على فاس فحسب، ولكن شاركتُ في لقاء ثقافي في مدينة القنيطرة، أعده الناقد الدكتور مصطفى شميعة من خلال جمعية حراس اللغة العربية برئاسة السيدة جرية حجي، حيث نوقشت روايتي "الماء العاشق"، وبعض دواويني الشعرية وقام الناقد د. محمد نافع العشيري بكتابة دراسة تحمل عنوان "تفكيك مرجعية رواية الماء العاشق"، نشرها بعد ذلك في مجلة "العربي" الكويتية، وغيرها من الدراسات والمشاركات.

ثم كانت الزيارة الأخيرة لمدينة الصويرة التي تقع على المحيط الأطلنطي – قبل غزوة كورونا – بدعوة من الكاتبة الروائية ليلى مهيدرة، حيث أقامت جمعية التواصل للثقافة والإبداع مهرجانها الثامن تحت عنوان "الغرائبية والسرد القصير"، وكان الاحتفال بإبداع الكاتب المغربي محمد العتروس من مدينة بَركان (شمال شرق المملكة). وعدت محملا بالكثير من الكتب والذكريات الرائعة عن تلك المدينة المغربية الأطلسية الهادئة شتاء (وبالتأكيد المزدحمة صيفا) فقد كانت زيارتنا لها في شتاء 2019، وانطلقنا منها لزيارة المدينة الحمراء وسط أجواء شتائية عاصفة حرمتنا من متعة التجوال وزيارة أهم معالم المدينة التاريخية التي أوصاني بعض أصدقائي في مصر – عندما عرفوا أنني هناك – بزيارة قبر الأمير الشاعر المعتمد بن عباد.