'المغرب بعيون عراقية' يروي ذاكرة المدن وعبير ترابها

الكاتب العراقي رحمان خضير عباس يشاركنا في هذا الحوار تجارب شخصية بدأت من المشرق نحو المغرب ويسرد أسرار مذكراته حول تعدد الثقافات في المملكة.

الرباط - أصدر الكاتب العراقي المغترب رحمان خضير عباس كتابه الجديد المعنون ب" المغرب بعيون عراقية"، وهو من منشورات دار مقاربات للنشر والصناعات الثقافية في مدينة فاس.

ويتطرق خضير عباس في هذا العمل الجديد إلى رحلاته وتجاربه في المدن التي عاش فيها أو زارها، ويسلط الضوء بشكل خاص على مدينة مراكش، وتارودانت، ومدن أخرى مثل فاس، والرباط، وطنجة، وشفشاون، والعرائش.

ومنذ القدم كان للأدب دور بارز في إبراز الثقافات العريقة للدول العربية، فهو ليس مجرد مجموعة من النصوص الأدبية بل هو مرآة تعكس جوانب متعددة من الحياة والفكر والقيم التي تميز كل دولة، إذ يعتبر الأدب العربي جزءا لا يتجزأ من الهوية الثقافية لهذه الدول، وهو يعكس تاريخها وتراثها وقيمها بأسلوب فني يتسم بالجمالية والعمق.

وفي هذا السياق كان ل "ميدل إيست أونلاين" لقاء مع الأديب العراقي رحمان خضير عباس حول كتابه "المغرب بعيون عراقية".

وفي ما يلي نص الحوار:

ما الذي دفعك لتأليف كتاب "المغرب بعيون عراقية"؟

كتابي "المغرب بعيون عراقية" كان نتاجًا للتجربة التي عشتُها في أواخر السبعينيات من القرن الماضي، حيث قمنا بالاقامة في المغرب كمجموعة غير متجانسة من العراقيين، فالصدفة وحدها كانت التي جمعتنا، فلم نكن قد خططنا لذلك مسبقًا، سوى أن أكثرنا كان هاربًا من قفص حديدي كبير يُدعى الوطن، كنا متوجسين من حقيقة وجودنا في المغرب، وتنتابنا مشاعر متضاربة بأننا نمر بمرحلة طارئة، حتى أننا ترددنا كثيرًا في شراء مستلزمات السكن والعيش مثل الأثاث وغيرها، واكتفينا بالضروري فقط، كأننا في حالة من السياحة والسفر، متلهفين لسماع أخبار الوطن الذي غادرناه، ولكنه لم يغادرنا.

لكن الحياة المغربية ببساطتها وهدوئها، قد سمرتنا على أبوابها، فاقتنعنا بأنها ليست مجرد محطة انتظار، وإنما ملاذ بديل سرعان ما تحول إلى عنصر حياتي، تناسينا به همومنا وإمكانية العودة إلى الوطن الأول، شيئا فشيئا تناغم أكثرنا مع الواقع المغربي الذي انتشينا بعطره، وتسللنا إلى عمق الحياة فيه، وتشبعنا بعاداته وتقاليده، إذ كان المغاربة أقرب إلينا من دول تجاورنا، كأنها عملية جذب بين قطبين متباعدين، لأن العراق في أقصى الشرق والمغرب في أقصى الغرب، ومع ذلك لمسنا أشكالا من التعاطف والاحترام من قبل أغلب شرائح المجتمع.

وكيف وجدت نظرة المغاربة إلى العراق؟

فور ذكر العراق أمام المغاربة، تنهمر الذاكرة الجمعية لديهم، فيبدأون بالحديث عن أصالة العراق، وعن شعره وأدبه، وعن عصوره الذهبية،  ويتحدثون عن التمر والنهر والحضارة وأمور أخرى تُشبع فينا الألفة التي نفتقدها في بلدان أخرى وأحيانًا نحن نحاول أن نُوضح لهم التراجع الكبير الذي شهده العراق، ولكن مخيلتهم الجماعية ترفض ذلك وتبقى متشبثة بالعراق المتألق الذي سيتجاوز المحنة.

المغاربة يعرفون عن بلادنا أكثر منا، يتحدثون لنا عن مرقد الإمام عبد القادر الجيلالي في بغداد ويتحدثون عن الجواهري والسياب ومظفر النواب، ويذكرون لنا المجلات الأدبية التي تأتي من العراق، رخيصة في ثمنها وغنية في محتواها، ويحفظون أغاني ناظم الغزالي، إذ كان للمغرب الفضل في تطمين قلقنا، وذلك بإسعافنا بالمحبة والمودة، وجعلنا أكثر قابلية للاستقرار.

كيف وجدت المدن المغربية في زياراتك المتعددة؟

في المغرب وجدت ما افتقدته في العراق، مثل الحرية في تحقيق الذات، فالمغاربة لم يتدخلوا في قناعاتنا الفكرية وسلوكنا، ولكنهم يرفضون أن نتدخل في شؤونهم أيضًا، ومن خلال هذه المعادلة المنصفة، فكرت أن أصنع لنفسي سقفًا للحياة يحميني من عواصفها، وتحدثت في الكتاب عن المدن المغربية التي مررت بها بشكل عابر، والمدن التي أسست لي سقفًا فيها وبدأت في مدينة وجدة التي جعلتني أنجذب إلى المغرب، وتطرقت إلى روح التآلف عبر الحدود، وأصل التسمية للمدينة حيث أدرك جند إدريس قاتل ملكهم سليمان الشماخ الذي اغتال الملك إدريس وهرب باتجاه الشرق، وحينما وجدوه صاحوا "وجدوه" فسميت بهذا الاسم فالتشابه بين وجدة والمدن الجزائرية المتاخمة للحدود مثل تلمسان ومغنية، من حيث العادات والأزياء، اللهجات والأعياد، السلع المهربة سواء من مليلية أو من الجزائر، في سيدي يحيى الذي يقع في وجدة والذي يمثل التسامح الديني بين المسلمين والمسيحيين واليهود، فالجميع يجتمعون على تقديسه.

في غناء الراي الذي انتشر بين الحدود وتدفق كالنبع بين الذوق الجزائري والمغربي، كما تناولت رقصة الرگادة المشهورة عند الوجديين وكيف ظهرت وانتشرت، ووصفت مدينة تارودانت التي عشت فيها لعامين، حيث الأزقة القديمة والأسوار وطبيعة الحياة والفلاحة والمواسم الدينية والصناعات التقليدية، كما توقفت عند ساحة أسراك، ودار زوجة شاه إيران فرح بهلوي التي فتنت بالمدينة واشترت دارًا هناك، كما تناولت عشق الرئيس الفرنسي الراحل شيراك لهذه المدينة التي كان يرتادها بين الفينة والأخرى، ووصفت متحف الفنان الشيلي كلاديو برافو الذي عشق المدينة ومات فيها.

في أكادير تناولت أوفلا حيث الموت والانبعاث في آن واحد، حيث ماتت المدينة بفعل زلزال ستينات القرن الماضي، ولكنها أنجبت مدنًا أخرى وسواحلًا وشوارع فارهة ونمط حياة مختلف، تحدثت عن البطوار ووصفته بأنه وجه المدينة الهزيل والشاحب والمتخم من نواح أخرى، وسوق الأحد الذي يمثل ظاهرة اجتماعية وتجارية وبصمة في المنتوج الذي يعكس وجه المنطقة.

في مراكش، وصفت ساحة جامع الفنا كأبرز علامة للمدينة حيث تتجسد الوجوه المراكشية التي تطفح بالبشر والفرح وسرعة البديهة وجمال الدعابة وخفة الدم، فالمراكشيون يواجهون قسوة ما يحيط بهم بطرافة النكتة وعمق المثل الدارج والاستعداد الطبيعي لكسر الحواجز مع الغرباء، والمراكشي مستعد للرقص والغناء في إيقاعات إِفريقية جميلة، تجعل للجسد لغة ذات مضامين إنسانية، فتلك الساحة التي تمتد بامتداد النظر، تبدأ بصومعة الكتبية التي اقتبست اسمها من حي الكتبيين والوراقين الذين كانوا يمارسون عملهم في هذا المكان.

فساحة جامع الفنا هي روح مراكش التي تتدفق بالحياة، فما أن يبدأ المساء حتى تشع بالأضواء والأبخرة والأصوات، وباندفاع الناس في جميع الاتجاهات، وكأنهم يطوفون في فضاء يتّسع لخطواتهم، وفضولهم وبحثهم عن الجديد والممتع، حتى تتحول الساحة إلى ما يُشبه الثقب الأسود، الذي يبتلع الزِّحام، ويقذفه إلى المنافذ والشوارع المحيطة.

وصفت قصر البديع الذي بُني في القرن السادس عشر، وكيف نُهبت أحجاره لبناء قصور في مدن أخرى، كما تأملت الجمال العمراني في قصر الباهية، ولم أنس حدائق ماجوريل التي أصبحت قبلة للسياحة.

أما طنجة فقد رأيتها من خلال سور المعگازين الذي يُطل على المحيط، ثم الأسطورة التي نُسجت عنها وكذلك عن مغارة هرقل، والأدباء الذين عاشوا فيها، ومنهم بولز وجان جينيه ومحمد شكري، لكن طنجة التي تُشرف على البوغاز تنظر بقلق إلى قوارب الموت للأفارقة الحالمين بفردوس أوروبا الوهمي،

وتحدثت أيضًا عن بعض المظاهر القديمة التي مازالت شاخصة ومنها المستودعات الأمازيغية التي تسمى إيگودار، فنقف مبهورين إزاء ما فعله المغاربة القدماء، حيث أسسوا أول بناء بفكرة الادخار البنكي، مخزن إيكنكا الذي لم يبق من ملامحه سوى الحجر والصخر والذي ماثل التنوع الجيولوجي للأرض التي يقف عليها، وكأنه المركز لما يحيط به، وعلة وجود الحياة التي تدنو منه.

كيف تفاعلت مع الثقافة المغربية وكيف تأثرت بها خلال فترة إقامتكم في المغرب؟

تحدثتُ في الكتاب عن الأدباء والفنانين الذين مروا على المغرب واستقروا فيه، ومنهم بول جوبز الأديب الأمريكي الذي قدّم محمد شكري إلى العالم عبر ترجمة أعماله إلى الإنجليزية، كما تحدثتُ عن الشاعر الفرنسي الراحل والمدفون في مدينة العرائش (جان جينيه) عن حياته في المغرب وعلاقته الصميمة بالمهمشين وإصراره على أن يُدفن بعد موته في المغرب، كما ذكرتُ مواقفه من القضايا العربية، فهو من أوائل الأدباء الذين دخلوا مخيم صبرا وشاتيلا بعد المجزرة.

ولم أكتف بوصف المدن والشخوص، بل تجاوزتُ ذلك في الحديث عن بعض المظاهر التي يتفرد بها المغاربة دون غيرهم، ومنها وفرة المقاهي وأناقتها، حتى أن شارعًا واحدًا في أگادير فيه من وفرة المقاهي أكثر من عواصم عربية في الشرق الأوسط، وكانت فرصة لي أن أتحدث عن تاريخ المقاهي في العالم بسبب اكتشاف البن، وكيف عرف الأوربيون هذا الشراب الذي كانوا يسمونه (نبيذ العرب) وكيف تطورت المقهى لتُصبح مجالًا للراحة والتأمل واللقاء، كما تناولتُ الصالونات الأدبية في المغرب والتي أصبحت رافدًا مهمًّا للثقافة، وذلك بسعيها لدعوة الكثير من الأدباء والفنانين والمفكرين والمطربين والشعراء، لإلقاء الأضواء على منجزاتهم الأدبية والفنية، كما تناول الكتاب المائدة المغربية وطبيعة الطبخ والتقديم والعادات التي ترافق ذلك، واحتفاء المغاربة بالضيف وأنواع الأكلات التي ترافق المناسبات الدينية والاجتماعية، وطريقة تقديمها وكذلك الأزياء المغربية المتميزة.

وفي الختام، يمكنني القول إن "المغرب بعيون عراقية" محاولة لتلمس النبض الحيوي للإنسان المغربي في بعض جوانب حياته، كما هو النظر إلى المدن المغربية بتنوعها وجمالياتها، إضافة إلى نصاعة الريف والسلوك والجبال والأنهر المغربية، لقد جاء الوصف عفويًا عاطفيًا، بعيدًا عن الرؤية السياحية التي ترى من الأشياء بريقها، إذ حاولتُ أن أبحث عن جوهر المدن وزواياها الخلفية من أجل تقريب ذلك إلى القارئ بشكل عام والقارئ العراقي بشكل خاص، إن هذا الكتاب هو مجرد تحية مودة إلى المغرب الذي ترفّق بِنَا ومنحنا سقفًا هادئًا.