الموسيقار طارق شرارة يعزف حكايات مسيرته مع الحياة والفن

شرارة يروي في كتاب 'عزف على أوراق زمن' مواقف وأحداثا شكلت حياته خاصة تلك التي تعامل فيها مع الوسط الفني والموسيقي والتشكيلي.
شرارة قدم الموسيقى التصويرية لما يقرب من 50 فيلما سينمائيا
شرارة دخل العالم السحري للسينما من باب العمل رقيبًا على المصنفات الفنية

القاهرة - يروي الموسيقار طارق شرارة في كتابه "عزف على أوراق زمن" محطات في حياته الخاصة والعامة، انطلاقا من بيت الأسرة الذي تعرض لهزة كبيرة بعد تعرض والده "الباشا" للعزل السياسي بعد ثورة 23 يوليو ومصادرة أراضيهم، مرورا بدور والدته التي غرست فيه حب الموسيقى والرسم، ودور د.سهير القلماوي في تكوينه الثقافي، وكذا "صلاح الحسيني" و"انيتا فيشر" ثم تخرجه في كلية الحقوق وتعيينه بوزارة الثقافة، وتقلده منصب سكرتير عميد الكونسيرفتوار "شيزيري نورديو"، ثم العمل كرقيب بالرقابة على المصنفات الفنية، وانتهاء باستقالته وتفرغه للتأليف والإعداد الموسيقي وعلاقاته مع الفنانين والمخرجين وقائدي الأوركسترا والمطربين، حيث قدم الموسيقى التصويرية والإعداد الموسيقي لما يقرب من 50 فيلما سينمائيا، من بينها العذراء والشعر الأبيض، والصعود إلى الهاوية، وامبراطورية ميم، وامرأة سيئة السمعة، والحب تحت المطر، كما كتب سيناريو وحوار والموسيقى التصويرية لفيلم "أنياب" إخراج محمد شبل. وكتب موسيقات تصويرية لأفلام تسجيلية عديدة ورسوم متحركة، كما قام بالتأليف الموسيقى لمسرحيات وليد عوني وغيره في دار الأوبرا.
تضمن الكتاب الصادر عن دار نشر سنابل مواقف وأحداث شكلت حياة شرارة خاصة تلك التي تعامل فيها مع الوسط الفني والموسيقي والتشكيلي، يقول "عشت هذه الحياة كما أردت أن أعيشها متنقلًا بين بلاد العالم المختلفة، متمردًا على قواعد الوظيفة التي قيدت في مرحلة ما المبدع الذي يعيش داخلي، سواء كان الفنان التشكيلي أو الإذاعي أو الموسيقي، هذا الأخير ـ الموسيقي - التي طغت على باقى مواهبي، وأصبحت هي المسيطر الأول، محتله مساحة أكبر من العشق، متأثرًه برموز منحوا الفن كثيرًا من الأعمال ستظل منحوتة في تاريخ البشريه الصوتي".

ويضيف "أنتمي إلى عائلة محبة للفنون، الوالدة كانت تجيد العزف على البيانو بمهارة، تعلمت العزف في مدرستها "أمريكان كوليدج" التي تقع في شارع الملكة نازلي سابقًا، رمسيس حاليًا، والتي درست بها خالتي وأقارب والدتي ومعظم بنات العائلة. وجود البيانو في هذه المرحلة التاريخية في البيوت كان من الأساسيات، ويستهوي بنات العائلات أكثر من الشباب، ربما لأنه بجانب مهارات التطريز والحياكة وشغل الإبرة، من المقومات الأساسية للفتاة المقبلة على الزواج. تميزت والدتي عن كل بنات العائلة بإيجاده الرسم بجانب العزف على البيانو، لدرجة أنها كانت تتعلمه على يد أستاذ إيطالي اسمه "منشيني". كل هذا بالطبع كان قبل ارتباطها بوالدي، الذي كان ارتباط "صالونات" عن طريق العائلات؛ لكونها من سكان حي العباسية الشرقية وهو من الحلمية. على الجانب الآخر كان والدي أيضًا عاشقًا للموسيقى، يعزف على آلتَي القانون والعود، ومحبًّا للقراءة بشكل كبير، وأعتبره قارئًا موسوعيًّا يقرأ في جميع المجالات. أمي لم تكن تميل إلى القراءة الجادة المتخصصة، بقدر حبها للعزف على البيانو والرسم، بخلاف شقيقتها التي ستلعب دورًا كبيرًا في حياتي د.سهير القلماوي التي كانت مُحبة للقراءة مثل والدي، تغطي الكتب في بيتها كل الجدران تقريبًا. بعد عودة خالتي من فرنسا مع زوجها د.يحيى الخشاب احتضنتني وعدَّتني بمنزلة ابنها". 
ويشير شرارة إلى أن كل ذكريات طفولته تقريبًا كانت في بيت جده الطبيب الجراح د.محمد القلماوي. الكائن بحي العباسية الشرقية، كانت الأم الحنون التي كنت أراقبها وهي تسمع الموسيقى الكلاسيكية التي ما زلت أذكر منها "متتاليات بير جنت" للموسيقار جريج، و"البوليرو" لـ "رافيل" و"شهر زاد" لـ "ريمسكي كورساكوف". ولا غرو، فقد كانت رسالة الدكتوراه التي قدمتها عن ألف ليلة وليلة، قبل أن تسحبها فيروز إلى عالمها الغنائي. وحتى بعد أن رزقها الله ابنَيها الأول والثاني، لم تتخلَ عن اهتمامها بي حتى آخر لحظة في حياتها. كانت تعدني بمثابة ابنها البكر، ولا أنسى القصص الخيالية التي كانت تقصها عليَّ عند النوم، وكذلك قصص واقعية كثيرة عن جدتها وأمها لم تشملهم في كتابها الشهير "أحاديث جدتي"، وقد تكوِّن في مجموعها مجلدًا ضخمًا. كل هذا كان بمثابة ذخيرة محفورة في خيال طفل. 
ويكشف شرارة أن والده بعد رحيل الجد أصبح ملزمًا بالإشراف على الأراضي الزراعية التي تخصه من الميراث، ويقول "في هذه المرحلة اشترى أراضي بور في الشرقية بمساحة ثلاثة آلاف فدان تقريبًا، وبدأ في عملية استصلاحها، وكان يقضي أيامًا وليالي في الأرض بين الفلاحين يتابع عمليات الإصلاح بنفسه، يترقب اللحظة التي يرى الأرض خضراء حوله. كان يعد هذا المشروع من أهم مشاريع حياته، وبالفعل مع بداية الخمسينيات بدأ الحلم في التحقق، وبدأت الأرض في إنتاج المحاصيل الزراعية المتميزة، وفي عز فرحته واحتفالاته وسعادته بأن شقاءه وتعبه لم يذهبا سدى، وعلى طريقة ما يحدث في الأفلام السينمائية، قامت ثورة 23 من يوليو 1952، ولم تمضِ فترة طويلة إلا وظهر قانون الإصلاح الزراعي الأول الذي ينص على أن يحدد ملكية الأراضي الزراعية بـ200 فدان للأسرة والأولاد القُصَّر، ويُسَلَّم ما يزيد عن ذلك إلى إدارة الإصلاح الزراعي. هذه اللحظة تحديدًا كانت من أشد اللحظات قسوةً ومرارةً في حياته؛ فقد كان مضطرًا إلى أن يختار 200 فدان ليحتفظ بها، فإما أن يتخلى عن الأرض التي أصلحها بنفسه وتشكل حلم حياته الذي منحه وقته وجهده وعرقه وسهر الليالي، أو يحافظ على ميراث والده ويحتفظ به. وعلى الرغم من قسوة الموقف والاختيار - فإنسانيًّا الخياران أحلاهما مر- وعلى الرغم من أنه قرر في نهاية الأمر الاحتفاظ بأرض أبيه وأجداده، وذهب حلمه أدراج الرياح، فإنه عاش حياته غير ناقم على قانون الإصلاح الزراعي أو مبادئ ثورة يوليو الخاصة بالمساواة وتقريب الفوارق بين الطبقات؛ فقد كانت هذه الأفكار متسقة مع كثير من أفكاره التي كان يؤمن بها قبل قيام الثورة. 

أنتمي إلى عائلة محبة للفنون، الوالدة كانت تجيد العزف على البيانو بمهارة

كان اشتراكي النزعة قبل أن يتكلموا عن الاشتراكية، تبنى من نفسه إقامة المشاريع الخيرية بسخاء بدون البحث عن مكاسب أو مناصب، وأكبر دليل على ذلك أنه اعتذر مرتين عن منصب وزير الشؤون الاجتماعية عندما عرضه عليه فؤاد باشا سراج الدين، وإبراهيم باشا عبد الهادي فيما بعد. كانت المبادئ التي آمن بها من مقتبل شبابه هي التي تحركه، بعيدًا عن الدعاية والتهليل مثل آخرين كانت أعينهم على المناصب والوجاهة الاجتماعية وقد لخص فكره الاجتماعي في مذكرات بعنوان "لماذا لم أعمل بالسياسة ومتى أعمل بها"، فقد عدَّ العمل بالسياسة آنذاك مفسدة ومصالح متضاربة.
يذكر شرارة أنه دخل العالم السحري للسينما التي أعشقها من باب العمل رقيبًا في جهاز الرقابة على المصنفات الفنية - قسم الرقابة على الأفلام الأجنبية ـ وذلك في مرحلة تاريخية كان العمل في هذا الجهاز الحيوي أشبه بالسير على الرمال المتحركة لا يحتمل أي خطأ، خصوصًا في تنفيذ التعليمات المتعلقة بالتوجهات السياسية للدولة المصرية محليا و عالميًّا، وفي ظل تفجر الصراع العربي الإسرائيلي و خلال حربَي 1967 و1973. لم تكن السينما بعيدة عن هذه المعارك في ظل سيطرة الصهيونية العالمية في هوليوود على شركات الإنتاج السينمائي الكبرى، وولاء كثير من صناع السينما العالمية للجانب المعادي لمصر. في تلك الأيام أصبحنا نعمل في الرقابة -علاوة على قائمة الممنوعات التقليدية- بقائمة إضافية صادرة من لجنة أُطلق عليها "مكتب المقاطعة بالجامعة العربية"، تضم أسماء كل من له علاقة بالكيان الصهيوني على مستوى الأنشطة الفنية السينمائية، سواء كانوا منتجين في هوليوود، أو نجومًا أو كتَّاب سيناريو أومخرجين.

الموسيقار طارق شرارة مع الفنان فريد الاطرش
شرارة متأثر برموز منحوا الفن كثيرًا من الأعمال

ويشير إلى أنه "قبل مشاهدة أي فيلم رقابيًّا لمنحه الترخيص بالعرض الجماهيري كنت أحرص على مراجعة أفيش الفيلم، ومقارنة الأسماء الموجودة على تتر الفيلم بالأسماء والصور الموجودة في قائمة الممنوعين التي لا تفارق مكتب صالة العرض. وكانت تنتابني خلال المشاهدة حالة غير عادية من التركيز لتحليل حوار الفيلم، والمتابعة الجيدة الدقيقة للصورة المتحركة أمامي؛ خوفًا من مرور عابر في خلفية المشهد لممثل قد يحمل علم إسرائيل مثلًا، أو عبارة موجودة على جدار تحمل أي توجه ضد القضية العربية. ويكشف هذا أن اختياري لهذه الوظيفه أنا وغيري من الرقباء كان يقوم على مواصفات خاصة لا بد أن تتوافر في الرقيب بشكل عام، منها الحس الفني، وحب السينما، والثقافة العامة، والوعي السياسي بجانب الوعي الديني، وأن يكون الرقيب حريصًا على متابعة الأحداث الجارية على الساحة العربية والدولية بشكل دائم، ومن البديهيات بالطبع أن يكون متمكنًا من اللغات بشكل احترافي؛ لأن الأفلام تُعرَض على الرقابة قبل الترجمة، وبالتالي كان هناك مصريون خريجو الألسن للغات من ألماني وإيطالي وفرنسي وروسي، كما وجد بعض الأجانب مثل الآنسة "ليلى بوليوس" اليونانية التي تجيد الفرنسية والإنجليزية، و"كلمنتين راندا" الإيطالية المخضرمة. وكان الحوار يتضمن أحيانًا ألفاظًا خادشة للحياء أو مدلولات جنسية فاضحة. مثل هذه الألفاظ الخارجة تأتي دائمًا في سياق الحوار العادي بين الممثلين في الفيلم، وفي هذه الحالة كنا ندوِّن في تقاريرنا ملحوظة لمكتب الترجمة أنيس عبيد بعدم ترجمة هذه العبارات الخادشة للحياء؛ لأن الحذف قد يفسد تتابع الفيلم بالتأكيد.
ويوضح شرارة أنه "من الأسماء اللامعة التي تصدرت قائمة المقاطعة النجمة الأمريكية إليزابيث تيلور الملقبة بقطة هوليوود، أذكر أن الجمهور المصري لم يشاهد فيلمها الشهير "كليوباترا" في دور العرض إلا بعد إنتاجه بـ10سنوات، بعد توقيع معاهدة كامب ديفيد التي نصت على إلغاء قائمة المقاطعة. كما شملت القائمة أيضًا النجمة الأمريكية باربرا سترايسند بطلة الفيلم الشهير "فتاة مرحة" الذي شاركها بطولته النجم المصري عمر الشريف، الذي تعرض للهجوم الشرس في الصحافة المصرية آنذاك لمشاركته بطله الفيلم المعروفة بانتمائها الصهيوني، وكذلك بول نيومان وراكيل ويلش، وكثير من الممثلين والممثلات مثل وإدوارد ج روبنسون وفرانك سيناترا وسامي ديفيز وبيل كوسبي وغيرهم. لم تكن تلك القائمة حكرًا على النجوم والنجمات فقط، بل كانت تضم أحيانًا نجوم الصف الثاني ومخرجين وموسيقيين وكتَّاب سيناريو، وشركات الإنتاج المعروف أن أصحابها لهم علاقات وثيقة مع الدوائر الصهيونية المتحكمة في الإنتاج السينمائي في هوليوود".
ويلفت إلى أنه بين الانشغال بالموسيقى والفن التشكيلي والسفر "كان الكتاب دائمًا رفيقًا لم أتخلَّ عنه منذ بدأت القراءة صغيرًا في السن، سواء في بيتنا أو بيت خالتي د.سهير القلماوي التي كانت تشجعني كثيرًا على القراءة، وفي مرحلة معينة عندما وجدتني مشدودًا إلى روايات الكاتب يوسف السباعي بدأت تنصحني بعدم الانجراف إلى هذه النوعية من الكتابات المعتمدة على اللغة العامية، وتشجيعي على القراءة بالفصحى. وأذكر أنني انجذبت أيضًا إلى روايات نجيب محفوظ وكتابات الرائع توفيق الحكيم، وعشقت القصص القصيرة للكاتب يوسف إدريس، واتجهت إلى القراءة الموسوعية أحيانًا في الكتب التراثية من نوعية "البخلاء، والحيوان للجاحظ"، وتأثرت كثيرًا في صغري بكتاب "كليلة ودمنة". ومن الكتب التي لازمتني لفترة بأجزائها المختلفة "شخصية مصر" للعبقري د.جمال حمدان، وأيضًا كتاب "ثقوب في الضمير" للدكتور أحمد عكاشة، وكتابات صديقي إسماعيل ولي الدين قبل أن ينجرف إلى تقديم الأعمال التجارية. ولا يعني اهتمامي بالأدب المصري بجميع فروعه أنني انشغلت عن الأدب العالمي، بل بالعكس، في الذاكرة عشرات الأعمال الكلاسيكية العبقريه لكبار المؤلفين، "أحدب نوتردام" لفيكتور هوغو، "مائة عام من العزلة" لغابرييل غارسيا ماركيز، وغيرها، ومنها أعمال تحولت إلى أفلام سينمائية أصبحت جزءًا من خزينة ذكرياتي.