باحث في السيرة النبوية يرى أن الوحي محاورة بين الخلق والله

محمد الحمامصي
محمد النوي يتساءل: ما هي صلة الوحي المحمّدي بشخصيّة محمّد (صلى الله عليه وسلم) وبسياقه الذي فيه تنزّل؟
تساؤلات يتجاذبها قطبان الأوّل هو الوحي المحمّدي، والثاني فكر السيرة
اختلاف المصنّفين في السيرة من أهل الملّة وغيرهم حول شخصيّة محمد طعناً وتمجيداً

كيف أوضحت مدوّنة السيرة النبوية قديماً وحديثاً أخبار الوحي؟ وما هي رهانات المصنّفين من وراء ذلك؟ ما هي سمات الوحي المحمّدي؟ وبمَ امتاز عن الوحي السّابق عليه في بيئته؟ ما هي صلة الوحي المحمّدي بشخصيّة محمّد (صلى الله عليه وسلم)، وبسياقه الذي فيه تنزّل؟ وإلى أيّ حدٍّ كان الوحي مؤثراً في ذلك السّياق متأثّراً به؟ إلى أيّ حدٍّ يُمكن للباحث تحقيق النّظر الموضوعي في ظاهرة ذاتيّة فريدة تتأبّى على الملاحظة، وتُعسّر استعادتها؟ 
تشكل هذه التساؤلات محور الدراسة "الوحي من خلال مصنفات السيرة النبوية قديما وحديثا" للباحث محمد النوي حيث يتجاذبها قطبان الأوّل هو الوحي المحمّدي، والثاني فكر السيرة.  
رأى النوي أن السيرة النبويّة مرت - قبل بلوغ مرحلة التصنيف - بمرحلتين أساسيتين: مرحلة القصّ، وهي مرحلة شفويّة انطلقت منذ وفاة الرسول، وارتبطت برواية أحداث جزئية بحسب المقام ورغبة القاصّ وطلب السائل؛ ومرحلة التدوين الجزئي في (كتب المغازي). وكانت هذه المؤلّفات تتناول الغزوات وغيرها من مراحل حياة الرسول، لكنه تناولٌ جزئيٌّ أيضاً، وهي المرحلة التي مهّدت لانطلاق مرحلة التصنيف في السيرة النبويّة. 
وقد تزامن التصنيف في السيرة مع بداية عصر التدوين، ونُظر فيها إلى السيرة النبويّة باعتبارها فنّاً قائماً بذاته مستقلاً عن الفنون المتاخمة له، كالحديث النبوي. واعتمد المصنّفون فيها على ترتيب الأحداث ترتيباً زمنيّاً، وعلى العناية بالسّند، وعدّوا المغازي جزءاً من السيرة النبويّة، ويُعدُّ مصنّف ابن إسحاق (المبتدأ والمبعث والمغازي) الانطلاقة الحقيقية لهذه المرحلة.  
وقال في دراسته الصادرة عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود إنّ الوحي، كما يُشير عنوان مصنّف ابن إسحاق، يحتلُّ من السيرة النبويّة المركز؛ فالمبعث، وهو سميُّ الوحي، هو اللّحظة التي تلتئم حولها السيرة النّبويّة؛ بل إنّ السيرة هي سيرة محمد نبيّاً، وبالوحي كانت النبوّة. وقد صاغ المبعث تاريخ محمد اللاحق والسابق أيضاً، فتداخلت في مصنّفات السيرة كتابة سيرة محمد وكتابة سيرة الوحي، فضلاً عن أن سرد أخبار الوحي إنّما هو نقلٌ للخبر على وجه الخصوص، واستحضارٌ لنصوص أخرى ثاوية في الخطاب الإخباريّ هي نصوص الثقافة الإسلاميّة. فمثلما كان الوحي يحتلُّ من سيرة محمّد مركزها، كان فنّ السّيرة يحتلُّ من الثقافة الإسلاميّة منزلة الرحم الذي تلتقي فيه الفنون ومنه تتناسل. 
نضيف إلى ذلك اختلاف  المصنّفين في السيرة من أهل الملّة وغيرهم حول شخصيّة محمد طعناً وتمجيداً، وهو اختلاف يتأسّس على القول في الوحي نقضاً وإبراماً. هذه الاعتبارات مجتمعةً دعتنا إلى تناول مبحث الوحي اعتماداً على مصنّفات السيرة النبويّة قديماً وحديثاً.  
وأقام النوي مقاربته التحليليّة التي تعتمد على أربع نقاط منهجيّة: 
أولها: تفكيك رواية السيرة وتمحيصها بمقابلتها بعضاً ببعض، وبرصد تطوّرها والوقوف على رهاناتها وخلفيّاتها، وبعرضها على محكّ الممكن من جهة، والواقع التاريخي من جهة ثانية، وعرض قديمها على محدثها، ومحدثها على قديمها، عسانا نظفر بقولٍ نطمئنّ إليه في وجه من وجوه الوحي.  
وثانيها: النظر إلى الوحي المحمّدي من جهة التقبُّل: تقبُّل محمّد له أوّلاً، وتقبُّل الجماعة التي حاورها الوحي، سواء كانت من المعارضين أم من الأتباع. ونحن نبتغي من وراء ذلك تخليص ظاهرة الوحي من بُعدها العلويّ المفارق ومستواها الرأسي (الله - محمّد)، والنظر إليها في علاقتها بالبشر. وبذلك، تطمح مقاربتنا إلى الانفتاح في دراسة الوحي على قضايا التاريخ الاجتماعي والثقافي. 
وثالثها: مقارنة الوحي المحمّدي بأشكال الاتصال بالمفارق الرائجة في بيئته (وقد نهض بذلك الاتّصال الكهّان والشعراء) حتّى نتبيّن الفروق بين محمّد وبينهم. 
ورابعها: النظر إلى الوحي المحمّدي من جهة الشّكل لا من جهة المضامين. ونعني بالشكل كلّ ما يحفّ بما يبلّغه محمّد عن الاتصال بالمفارق: كيفيات الاتصال وأطره وسياقاته وأعراضه، وصورة المفارق، وكيفيات التبليغ، وأثر ذلك في نظرة محمّد إلى نفسه، ونظرة الجماعة إليه... ومن ثمّة لن نهتمّ بنصوص الوحي إلا بقدر ما حدّثت به عن نفسها. 
وأكد النوي أنّ الوحي المحمدي وحيٌ أصيل أصالةً راسخةً، وقال "ليس محمّد مختلقاً، ولا عصابيّاً، ولا متعلّماً، وإن وشت بعض أحوال الوحي بتلك السّمات. هو أصيل لسببين؛ الأوّل ذاتي: يتمثّل في تصديق النّبي نفسه أنّه إنّما يتلقّى عن الله علماً تصديقاً تامّاً، ما يجعل ظاهرة الوحي عنده موسومة بالغيريّة في بدئها وفتورها وأعراضها ومضامينها. والثاني موضوعي: يتمثّل في معارضة السّائد؛ وقد تمّ ذلك للوحي المحمّدي من خلال أشكاله لا من خلال مضامينه: لقد عارض الوحي المحمّدي بنية المفارق السائد في عصره، فخلع الجنّ، وأنشأ مفهوم الشيطان باعتباره متمحّضاً للشّر، وحوّر من صورة الملائكة. 
كما عارض هذا الوحي بنية الجماعة، فخلع الملأ، واستنشأ جماعة جديدة، وحوّر من وظيفة ربّ الكلام؛ وعارض أيضاً بنية الثقافة، فخلع الإنشاد، واستنشأ الكتابة، وحوّر من وظيفة التلقّي من الرّواية إلى التفسير. وهكذا يمكننا أن نصوغ معيارين للحكم على أصالة الوحي عامّةً، هما: معيار الصدق ومعيار الثورة. 
وأشار إلى إنّ للبشريّ دوراً أساسيّاً في الوحي: أمّا دور محمّد، فيتجلّى لنا من خلال استعداده للوحي بالتعلّم والتفكّر والرياضة الروحية والتقرّب من الفصل المفارق، كما يتجلّى من خلال الاستيحاء؛ أي طلب الوحي أن يكون على وجه، واستنزال جبريل بالتطيّب والتّطهّر والاستلقاء وطلب الخلاء والعتمة، وتجلّى أيضاً في تعقّل الوحي وصياغته في لغة البشر والحرص على تدوينه. 
أمّا دور جماعة المتلقّين من المعارضين، فقد كان حاسماً في وعي محمّد بشروط الارتفاع بوحيه عن وحي الكاهن والشاعر، وضرورة سحب سلطة الكلمة المفارقة منهما تماماً، كما كان ذلك الرفض باباً إلى استعارة مفهوم الشيطان من خلال حادثة الآيات الشيطانيّة، وإلى وعي محمّد بحدود مشاركته في الوحي. 
أمّا دور جماعة الأتباع من المتلقّين، فتمثّل في حماية تجربة الوحي الغضّة، وتثبيت محمّد للقاء المفارق، ومشاركته تحنّثه، وتمثّل أيضاً في إسناد السّيادة النّاشئة بفضل الوحي، وفي المشاركة في الوحي، ولا سيّما المساهمة في نصوصه، والسّهر على سيره بين الناس بالقراءة والكتابة. وهكذا يمكن القول: إنّ الوحي ليس اتّصالاً بين الله والخلق، وإنّما هو محاورة بين الخلق والله. 
وأضاف النوي أنّ الوعي المحمدي بالوحي قد تمّ على التّدريج، وكان الوحي، من ثمّة، وحياً يتطوّر بالمحاورة ويترسّخ بالتجربة؛ فمحمّد قد جمع بين التحنّث في بدء أمره والاتصال بالمفارق، وهو مفارق تطورت هويّته ووظيفته وصورته كلّما تقادم العهد بالوحي. وصحب ذلك تطوّر في الأعراض المصاحبة للوحي، وفي أساليب النصوص الناتجة عن الوحي ومضامينها؛ وتطوّرت أيضاً نظرة محمّد إلى نفسه، باعتباره صاحبَ وحي، من جهة علاقته بالجماعة، نحو السّيادة عليها بالوحي. 
إنّ سمة التنجيم بقدر ما تنطبق على القرآن تنطبق على الوعي النبوي المحمّدي؛ فمحمّد لم يعِ نفسه نبيّاً إلا على التدريج. وهكذا يمكن القول: إنّ الوحي لم يكن منذ أوّل اتّصال، ولم ينشأ طفرةً واحدةً، وإنّما هو تجربة بكلّ ما تعنيه الكلمة من امتداد في الزّمان، وتطوّر في الأحوال. 
ولفت إلى إنّ غياب النظر إلى الوحي، باعتباره تجربةً للبشريِّ فيها دورُ الشّريك، قد أوقع مصنّفات السّيرة النبويّة قديماً وحديثاً في مزالق هائلة؛ فالمصنّفات القديمة لجأت إلى القول بالاصطفاء، فصاغت حياة محمّد السّابقة للوحي على ضوء الوحي، وكانت البشائر سرداً يستبق الوحي وينهل منه. ولجأت المصنّفات المتأخرة منها إلى التوسُّع والجمع والتبرير ساعيةً إلى إضفاء ما حسبته فذّاً على تجربة النّبي، وإلى احتواء مقالات السّلف وعلومهم جميعها، وإلى الرّد على المخالف من أهل الديانات. أمّا المصنّفات الحديثة، فاعتنى بعضها بتفسير ظاهرة الوحي بردّها إلى محضن جاهلي، أو مسيحي، أو نفسي، واعتنى بعضها الآخر باستنشاء مقالة ظنّها متناسقة بإسقاط أخبار وإنكار أخرى، وهي في ذلك كلّه تنظر إلى إشكاليّة الأصالة نظرةً زائفةً، وإلى تجربة محمّد نظرةً جامدةً. ولعلّ النقلة الأساسيّة في مصنّفات السّيرة إنّما هي الانتقال من التعبّد بكتابة السّيرة قديماً إلى محاولة تفسير ظاهرة الوحي حديثاً. 
وخلص النوي إلى إنّ تحويل مبحث الوحي من مبحث لا تاريخي يُعنَى بمصدره المتعالي إلى مبحث تاريخيّ يُعنَى بمتقبّليه، قد مكّننا من فهم جوانب نعدّها أساسيّة في تجربة الوحي المحمّدي، كما مكّننا من تجاوز عسر هذا المبحث ومزالقه. لكنّه مع ذلك يظلُّ قاصراً عن الإجابة عن بعض قضايا الوحي، ككيفيات التلقّي؛ لغموض التجربة المحمّديّة وذاتيتها، وتكتّم النبيّ في شأنها، والتباس العبارة القرآنية. 
ولئن انصبّ اهتمامنا، في عملنا هذا، على فهم الوحي انطلاقاً من محضنه ومتقبّليه الأوائل، فإنّنا نعتقد أنّ مقاربة الوحي المحمدي بمقارنته بتجارب الوحي الأخرى يُسهم في مزيد من تذليل صعوبات دراسة الوحي المحمّدي، ونأمل أن يسلك الباحثون طريق المقارنة.