بغداد وأربيل: شراكة هشة تحت ثقل الخلافات النفطية والسياسية

الخلافات بين بغداد وأربيل لم تعُد شأناً كردياً فحسب، بل باتت تمسّ طبيعة الدولة العراقية نفسها.

من جديد، تعود الخلافات لتطفو على سطح المشهد السياسي العراقي، وفي القلب منها العلاقة المتوترة بين بغداد وأربيل. علاقة بدأت بشراكة قائمة على الأمل بعد عام 2005، حين شارك الكُرد طواعية في تأسيس عراقٍ جديد، مؤمنين بأن الفيدرالية والدستور سيكونان ضمانةً لحقوق طالما ناضلوا من أجلها وقدّموا لأجلها التضحيات والثورات.

لكن تلك الآمال اصطدمت تدريجيًا بواقع سياسي معقّد، بدأت أولى بوادره في عام 2007 عندما تعثّر تمرير قانون النفط والغاز الاتحادي، وهو القانون الذي نص عليه الدستور العراقي (المادتان 111 و112)، وكان من المفترض أن ينظّم العلاقة بين المركز والمحافظات المنتجة، بما في ذلك إقليم كردستان. منذ ذلك الحين، تحوّل النفط من مورد مشترك إلى محور خلاف طويل، تتداخل فيه السياسة بالقانون، وتتعقد فيه المصالح إلى درجة الاستعصاء.

بعد عام 2014، دخلت الأزمة منعطفًا حادًا حين أوقفت الحكومة الاتحادية إرسال حصة الإقليم من الموازنة، متذرعة بعدم التزام أربيل بتسليم واردات النفط إلى شركة "سومو". ثم جاءت لحظة الانفجار الأكبر في عام 2017، عندما أجرى إقليم كردستان استفتاء الاستقلال، في خطوة عكست اليأس من إمكانية التفاهم مع بغداد. الردّ الاتحادي لم يتأخر، فجاء عسكريًا وسياسيًا: استعادة كركوك، وقطع كامل للموازنة، بل وفرض إجراءات طالت المواطنين بشكل مباشر.

ورغم ذلك، لم تُغلق أبواب الحوار، فقد حاول رئيس حكومة الإقليم، مسرور بارزاني، منذ توليه المنصب، كسر دائرة القطيعة. كانت آخر مبادراته زيارة إلى واشنطن في مايو/ايار 2025، أثمرت عن توقيع عقدين استثماريين مع شركتين أميركيتين هما HKN Energy وWesternZagros، في خطوة تهدف إلى تطوير البنية التحتية للغاز في كردستان، بما ينعكس إيجابًا على منظومة الطاقة في العراق كله.

لكن المفارقة الصادمة جاءت بعد عودته من الزيارة، حين أعلنت وزارة المالية العراقية وقف تمويل رواتب موظفي الإقليم، في بيان صدر بتاريخ 21 مايو/أيار 2025. لم يكن التوقيت عابرًا، بل بدا وكأنه رسالة سياسية، لا مالية. فهل بات الاستثمار في الغاز المحلي يُعدّ تجاوزًا؟ ولماذا تُوظف رواتب مئات الآلاف من الموظفين كأداة في لعبة ليّ الأذرع السياسية؟

هذه التساؤلات تقودنا إلى جوهر الأزمة: كيف تحوّل الكُرد، الذين كانوا شريكًا أساسيًا في إسقاط النظام السابق قبل 2003، إلى طرف يُعامل في بعض الأحيان كخصم بعد 2005؟ ولماذا يُصرّ بعض الفاعلين في بغداد على إدارة العلاقة بمنطق الغلبة لا الشراكة؟

الخلافات بين بغداد وأربيل لم تعُد شأناً كردياً فحسب، بل باتت تمسّ طبيعة الدولة العراقية نفسها. فالمادة 115 من الدستور تمنح الأفضلية للقوانين الإقليمية في حال تعارضها مع القوانين الاتحادية، ما لم تكن من ضمن الصلاحيات الحصرية للحكومة الاتحادية. كذلك، تمنح المادة 112 المحافظات المنتجة (ومنها البصرة وذي قار وميسان) الحق بالمشاركة في إدارة النفط، ما يعني أن أيّ حلّ لا يمكن أن يقتصر على كردستان فقط، بل يجب أن يكون وطنيًا وشاملًا.

اليوم، المواطن الكردي يدفع من استقراره ومعيشته ثمن صراع لم يختَره. ومثلما يُحرَم موظفو الإقليم من رواتبهم بين حين وآخر، فإن الثقة تُستنزف بين مكوّنات البلد، والهوة تتسع مع كل أزمة جديدة.

ختامًا، إن إصلاح العلاقة بين بغداد وأربيل لا يبدأ بقرارات مالية، بل بإرادة سياسية صادقة تعترف بالشراكة، وتحترم الدستور، وتُعيد الاعتبار لمفهوم المواطنة، فالأوطان لا تُبنى عبر الإقصاء أو العقاب الجماعي، بل بالحوار والمصارحة والعدالة. وإذا كانت السياسة فن الممكن، فإن الممكن اليوم – رغم كل الجراح – هو بناء عراق لا يشعر فيه الكردي أنه ضيف، ولا البغدادي أنه وصيّ.