بلاز سندرار يؤكد أنه لا نهاية لتأليف المزيد من الكتب

أقول لكم إن كميات الكتب التي تمر عبر دكاكين الوراقين والكتبجية، المتزاحمة على أرصفة المشاة في باريس، بامتداد طول مجرى نهر السين، تزيد على كميات المياه الجارية أسفل الكباري عبر نهر السين.
أقوال الحكماء راسخة في العقول كالمسامير المثبتة
حتى سن العشرين لم أكن قارئا نهما

يحار المرء كثيرا أثناء قراءة رواية الكاتب الفرنسي بلاز سندرار، هل هي سيرة ذاتية أم مذكرات سجلها لواقع عاشه في رحلات غربا وشرقا من أوروبا إلى روسيا والصين والشرق الأقصى ليتعمق في تاريخها وحضاراتها وثقافاتها ويحتفي بأناسها، كاشفا عن تعاطف بين مع الشرقيين؛ إلى جانب ذلك نرى لتجليات التأثيرات المباشرة من قبل عائلته على تكوين شخصيته وشغفه بتنوع قراءته واختلاف طرائق كتابته. 
يقول "حتى سن العشرين لم أكن قارئا نهما، لكن بدأ حبي للقراءة والبحث والاطلاع في كل فروع المعرفة عند بداية عملي في البحرية التجارية، وبسبب عملي في البحرية التجارية. أعتقد أنه ينبغي لي أن أشرح لكم كيف تم ذلك؟ أولًا أنا لا أعرف لماذا يذكرني هذا الكلام بالشاعر الفرنسي أرثور رامبو - المولود 1854 والمتوفي1891 - الذي أنتج كل تراثه الأدبي من شعر ونثر قبل أن يصل إلى سن العشرين، ثم توقفت القريحة تماما عن الإنتاج حتى وفاته في سن السابعة والثلاثين، من الجائز أن السبب هو أننا - أي أنا وهو - نشترك في نفس النقطة المحورية حول سن العشرين، هو لكي يتوقف عن الإنتاج وأنا لكي أبدأ الإنتاج.
   الرواية التي ترجمها وقدم لها الأديب عادل أسعد الميري، والصادرة عن دار آفاق، تبدأ أحداثها وفقا لبلاز سندرار "في الوقـت الذي كنت لا أزال فيه طفلا ومراهقا، فى نابولي بإيطاليا، ثم تلميذا مسـجلا في المدرسة الدولية بسويسرا، ثم طالبا مسجلا حتى العام الرابع بكلية طب برن، ومن المفترض أنني كنت متابعا للدراسة هناك، ولكن بدلا من ذلك تركت الدراسة، وأصبحت دائم التنقل: بين باربس ولندن وبرلين، حيث كانت لي دائما في كل هـذه المدن الأماكن اللازمة للإقامة، حيث حدث ذات صباح أن أخذت القطار إلى سانت بترسبورج، فتغيرت حياتي بالكامل، المشكلة هي أن كل شيء في هذا العام كان قد بدأ يثير اهتمامي، خاصة عالم الشرق الأقصى. 

حدث لي مرات عديدة أن أحسست بالاختناق من كثرة المعلومات، كما يحدث للبعض أحيانا أن يختنقوا بسبب توقف الطعام في حلوقهم.

ومن روسيا ذهبت إلى الصين سنة 1904، ومن الصين ذهبت إلى فارس دون أي إحساس بأي عوائق تمنعنى من حرية الحركة، حدث في روسيا أن نجحت في جمـع مليون دولار، المليون الأول، من العمل فى تجارة المجوهرات، وهو المليون الذي أنفقتة لاحقا على استئناف رحلاتي حول العالم وعلى حياتي الصاخبة، في الملاهي الليلية في عواصم العالم نيويورك، سان باولو، طوكيو، هامبورج، عندما أفلست لم أجد إلا العمل كبحار على المراكب التجارية، إشباع رغبتي فى السفر، دون دفع تكاليف السفر، حيث إنني لم أعد أبدا قادرا على أن أخضع نفسي لنظام عمل واحد في مكان واحد أذهب إليه كل صباح وأعود منه كل مساء. 
يقول الميري الشيء الأساسي الذي تجب معرفته عن بلاز سندرار هو أنه رجل متعدد المواهب، غزير الإنتاج من الكتب، ومن أنواع متعددة، شديدة الاختلاف فيما بينها، ورغم أنه دودة كتب، إلا أنه كذلك رجل اجتماعي بامتياز. إن متابعة مسيرته منذ أن تسلل من منزل والديه في سويسرا وهو بالكاد في السابعة عشرة من عمره وطوال حوالي خمسين عاما، أي تقريبا حتى نهاية الأربعينيات، كان خط رحلاته أصعب في التتبع من خط أعظم رحالة التاريخ ماركوبولو أو ابن بطوطة أو السندباد البحري أو جيمس كوك". هذا هو ما قاله هنري ميلر عن بلاز سندرار في الكتاب الذي أصدره بعنوان "الكتب في حياتي" من ترجمة أسامة منزلجي.
ويلفت الميري إلى أنه تعرف على بلاز سندرار لأول مرة عندما قرأ روايته "الذهب"، التي تحكي قصة البحث عن الذهب في غرب أميركا في نهايات القرن التاسع عشر، التي درسها في منهج العام الأول من الدراسات الجامعية، في المركز الثقافي الفرنسي بالمنيرة، ثم "نسيته تماما طوال ثلاثين عاما، حتى وقع في يدي كتاب هنري ميلر حيث وجدت فصلا كاملا عن سندرار في 32 صفحة، جعلني أعيد اكتشافه، ثم تذكرت أن لدي في مكتبتي بعض مؤلفاته، التي اخترت منها رواية   bourlinguerوهي كلمة من أصل ألماني استعارتها اللغة الفرنسية، ويمكن ترجمتها بالمغامرة وهي تحمل كذلك معاني أخرى، منها التحايل على المواقف، واللعب بالبيضة والحجر.
الرواية تتكون من عدد من الفصول، يتحرك فيها المؤلف بحرية تامة، جيئة وذهابا في الجغرافيا والتاريخ. ولا يربط نفسه فيها بالقيود التقليدية، وهي فصول تحكي عن مغامرات، قد تكون للمؤلف سندرار نفسه، أو قد تكون لشخص آخر. 

أصبح في مقدور أقل الناس ثراء شراء كل ما يروق لهم من الكتب
الكتب نوع من السحر

ويلفت الميري إلى أن هذا العمل يقع في منطقة وسط بين الرواية والاعترافات والمذكرات والسيرة الذاتية. كثيرا ما كان المؤلف يترك نفسه تتحدث إلى نفسه في حوار داخلي حول بعض المعاني المجردة. بشكل عام هو يميل إلى النظام، خاصة في أثناء عرضه لنقاط مختلفة في موضوع واحد إذ يكثر من استعمال أولا وثانيا وثالثا أو1 و2 و3 الحقيقة إن أحدا لم يتمكن من أن يعرف بدقة كل تفاصيل حياة سندرار.
ويضيف أن أحداث هذه المغامرات تدور بين عدد كبير من الأماكن الجغرافية المختلفة، بين أوروبا وآسيا وأميركا اللاتينية، بين إيطاليا وفرنسا وبلجيكا وهولندا وألمانيا وروسيا وإيران والهند والبرازيل في مراحل زمنية مختلفة من 1896 إلى 1946. اختار المؤلف أن يرتب أغلب الفصول جغرافيا، أي وفقا لانتقالاته بين الأماكن، لذلك غالبا ما يتعرف القارئ على المكان الذي يحكي عنه المؤلف في الصفحات الأولى من كل فصل، لكن في بعض الفصول يكون العنصر المسيطر هو تاريخ الحدث لا موقعه الجغرافي، والمؤلف في هذه الحالة يلتزم بالإشارات الزمنية.
يقول سندرار في أحد الفصول "تنوعت قراءاتي في كل فروع المعرفة بنهم شديد حتى أنني كنت حرفيا ألتهم الكتب، كأنني ألتهم أطباقا من الطعام الشهي وقد حدث لي مرات عديدة أن أحسست بالاختناق من كثرة المعلومات، كما يحدث للبعض أحيانا أن يختنقوا بسبب توقف الطعام في حلوقهم، ثم اكتشفت مبكرا أن سعادتي الكبرى كانت في قراءة كتب علوم الرياضات، التي تتمثل في ذهني في صورة البحر الذي أعبّ منه دون أن أرتوي".
ويحكي "لم أعرف في حياتي إلا القليل من الرجال. الذين كان لديهم نفس الولع بالرياضيات. قد يكون هذا الولع قد جاءني هو الآخر من أحد أسلافي وهو عالم الرياضيات ليونارد أولر، الذي كان أحد أعمام جدي وكان قد عمل في بلاط الملكة كاترين الثانية، كمدرس رياضيات لأطفال الأسرة الملكية، ثم وضع قرب نهاية حياته كتابا عن الأرقام يعتبر أحد أفضل الكتب في المنطق الرياضي، ولأنه كان قد أصبح في شيخوخته شبه أعمى، فقد قام بإملاء هذا الكتاب على أحد أحفاده. الذي لم يكن قد تجاوز بعد الثانية عشرة من العمر. 
قد تكون حقيقة تدريسه للأطفال، أو حقيقة أن الشخص الذي أملى عليه الكتاب كان طفلا، هما السبب في أن الكتاب مكتوب بلغة سهلة جدا، يمكن لأي شخص غير متخصص في الرياضيات أن يفهمه بسهولة، وأن يقرأه وهو ممدد في استرخاء على فراشه، كما لو أنه كان يقرأ رواية بوليسية مثيرة للاهتمام، هذا الكتاب يثبت كذلك أنه رغم فقد المؤلف لبصره، إلا أنه لم يكن قد فقد بعد بصيرته، وقد قسم هذا الكتاب إلى أربعة فصول تحمل العناوين التالية: "الجمع – الطرح - الضرب القسمة"، وهي الأحوال الأربعة الرئيسة التي تتعرض لها الأرقام. 
وفي هذا السياق يلفت سندرار إلى أن أباه مارس لبعض الوقت مهنة تدريس الرياضيات في المدارس الثانوية، حتى دخل مجال الاختراعات العلمية فترك التدريس، ثم دخل بمجال رجال الأعمال في محاولة منه لتسويق اختراعاته العلمية، وبدأ سلسلة من الرحلات التي بدت بلا نهاية فهو بمجدد عودته من إحدى رحلاته يبدأ في إعداد نفسه للرحلة الجديدة، كما لو أنه قد أصيب بالوسواس القهري. لبعض الوقت اعتقدت أن كل هذا السعي كان دافعه الأساسي هو كسب المال، وقد بدا كما لو أنه قد أصابته حمى جمع المال، إلا أن الحقيقة هي أنه كان مغترا بالتغيير، وبعدم الاستقرار في مكان واحد، ولا في مجال عمل واحد. 
ويشير إلى أنه في أحد أسفار التوراة، وهو سفر الجامعة لنبي الله سليمان الحكيم، ينتهي السفر في إصحاحه الثاني عشر بهذه العبارة الغريبة الدالة التي تقول: أقوال الحكماء راسخة في العقول كالمسامير المثبتة، ولا نهاية لتأليف المزيد من الكتب. وأنا أقول لكم إن الكتب هي نوع من السحر، يمارسه علينا نوع من السحرة هم المؤلفون، خاصة منذ وفرة النسخ في أيدي القزاء، أي منذ اختراع الطباعة في القرن الخامس عشر، عندما أصبح في مقدور أقل الناس ثراء شراء كل ما يروق لهم من الكتب. 
وأنا أقول لكم ليس هناك كتاب واحد لا يشع منه ولو شعاع ضوء واحد، مهما كان هذا الكتاب في مجموعه سيئا. وأنا أقول لكم إن كميات الكتب التي تمر عبر دكاكين الوراقين والكتبجية، المتزاحمة على أرصفة المشاة في باريس، بامتداد طول مجرى نهر السين، تزيد على كميات المياه الجارية أسفل الكباري عبر نهر السين.