"به سه به" و"سه ده سه"

ثمة كوميديا تسبق لحظات الانهيارات الكبرى.

جيفكوك كان مشغولا بتغيير أسماء الأتراك و"المسلمان"، و"السيكان"، حتى الأموات منهم للظهر الثالث. وكان على من تقرر تغير إسمه أن يغير حتى شواهد قبور آباءه وأجداده. كان الرجل الأممي حريصاً على نقاء العرق البلغاري واللغة البلغارية، وكانت الـ "سه دسه تتمدد"، والمظاهرات والإعتصامات تزداد يوماً بعد يوم، كنا مع جيفكوف وحزبه، بصادق عواطفنا، وقناعاتنا، نضع لافتات الـ "به سه به" ليس على شرفات شققنا الصغيرة في المدينة الجامعية فقط، وإنما حتى في غرف نومنا، وكنا على يقين أن الـ "به سه به" سينتصر، رغم الفوضى التي أحدثها غورباتشوف، رغم الغلاسنوست والبيروسترويكا، كان صديقي يطفئ كل المصابيح في منزله إلتزاما بالتقشف في نفقات الكهرباء، ويكتفي بمصباح واحد يضعه إلى جانب سريره، وكانت الكهرباء تمنح مجاناً من الإتحاد السوفيتي، لكن القيادة البلغارية كانت تبيع الطاقة الكهربائية إلى تركيا ودول الجوار من أجل الحصول على العملة الصعبة، وتجعل الناس يعانون من نقص الطاقة، ووصل الأمر فيما بعد إلى قطع التيار الكهربائي عن الشوارع الرئيسية، التي كانت تضاء بالتناوب، لكن المدارس الحزبية، وإستراحات القيادة وفنادق اللجنة المركزية، وبيوت القادة والمسؤولين الحزبيين، لم ينقطع عنها الكهرباء ولا ثانية واحدة.

وكانت صوفيا تغلي وتضطرب.

الطلبة أول من ابتدأ العصيان، وتحديداً طلبة جامعة صوفيا، حيث أقتصر الأمر في بادئ ذي بدء على التظاهر في الحرم الجامعي، ثم الإعتصام فيه، لكن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، تمددوا وصولاً إلى ساحة الكنيسة، ثم أغلقوا الشوارع.

وكان الشيوعيون البلغار يعتصمون أيضاً، ولكن في مقارهم يبدأون بالخطب العصماء التي لا تنتهي، كنت أستمع لخطبة الصحفي اللامع، واليهودي الذي نسى يهوديته لصالح الأممية، وهو يتلو خطبته العصماء في مقر اللجنة المركزية للحزب، بصوت عال، ساعدت الميكروفونات على إيصاله لأبعد مدى ممكن، وعلى بعد بضعة خطوات من المعتصمين الذين لم يعد بمقدور أحد التمييز بين من هو طالب أم عامل أم فلاح، أم موظف، أم حزبي حتى. هم يتكاثرون، يتمددون، ويزدادون ضراوة، ويرفعون من سطح مطالبهم.

الصحفي الذي نسى يهوديته يصرخ: من هم، ومن نحن؟ هم شراذم معزولة، ونحن الأمة، نحن نمتد ليس لتخوم موسكو، وإنما لأقاصي المنجمد الشمالي، وحتى حوافي المحيط الهادي، نحن ثوار أفريقيا، غينيا، ومنغستو مريام، وبنين، نحن الرفاق القابضين على الجمر في دول الإمبرياليات المتعفنة، نحن ثوار أميركا اللاتينية، كاسترو منا، جيفارا منا، نحن الصين العظيمة، فيتنام هوشي منه، نحن كمبوديا الحمراء، ولكن بدون بول بوت الذي هو ليس منا وإن تلبس بلباسنا، نحن الحتمية التأريخية التي ستحفر قبر المستغلين.. نحن.. نحن.. عندما إنتهت خطبته المطولة لم يكن في القاعة الفارهة سوى بضعة أنفار كنت منهم مع طفلتيّ، أما الذين (من هم؟) فقد أصبحت كل شوارع صوفيا لهم.

فيما بعد بعد إنتصار الـ "سه ده سه"، وإنهزام الـ "به سه به" وإعلان القائد جيفكوف عن ندمه لما أحدثه وحزبه من مصائب لبلده بلغاريا، وتخليه عن الشيوعية، بحيث أضحى المواطن البلغاري جيفكوف، أو هكذا كانت تقدمه وسائل الإعلام، تذكر الصحفي صاحب الخطبة العصماء يهوديته، ليس هذا فقط، بل طالب بمظلوميته، ومظلومية طائفته، وأصبح أحد رموز التغيير الديمقراطي!