بين النحت وإبداع الكلمة مسيرة حياة للذّات الشاعرة

دورين سعد تخوض معركة مع الكلمة في ديوانها 'نحت على الهواء' وذلك بحثا عن الحقيقة.
درية كمال فرحات
بيروت

"نحت على الهواء" عتبة نصيّة تحملنا إلى أبعاد دلاليّة عديدة، فالنّحت هو فرع من فروع الفنون المرئيّة وفي الوقت نفسه أحد أنواع الفنون التشكيلية كما أنّه يرتكز على إنشاء مجسّمات ثلاثية الأبعاد، وفي النّحت نقش عبر إزالة جزء من المادة، وفيه تشكيل أي إضافة مواد، ومن الملاحظ هنا اختيار دورين سعد الانزياح منذ العنوان، فهذا النّحت هو على الهواء، فكيف يمكن أن نجمع بين ما يتطلّب المادة الصّلبة وما يكون مائعًا أو هلاميًّا، فالهواء ليس له أي شكل معيّن وهو يتّسم بأخذه شكل الوعاء الذي يوضع فيه. لذلك فإنّ دورين سعد تحاول أنّ تضعنا مع هذا الانزياح في أن تدفعنا إلى التّساؤل عم تريد نحته على الهواء؟ وكيفية تشكيل هذا الهواء؟ وإذا كان النّحت وسيلته الإزميل، فإنّ القارئ للديوان يجد بأنّ وسيلة النّحت هي الكلمة، والحرف.

فإذا قمنا بمسح إحصائيّ للمفردات نكتشف بأنّ الحقل المعجميّ للكتابة حافل في الدّيوان: محبرتي/ إبريق الكتابة/ الحروف/ قصيدة/ عبارة/ الأبجدية/ تتهجأ الحروف/ أكتب أمحو/ اللّغة/ النّقط / الفواصل/ أوراق/ تنميق العبارة/ دلال القصيدة/ الصّفحات/ حبري/ إضافة إلى مشتقات الفعل كتب والكلمة، وهذا الانتشار له دلالته، إذ يتحدّد الموضوع في الموضوعاتيّة المعجميّة استنادًا إلى المستوى المعجميّ في المنتج النّصيّ أو الأدبيّ، ويتعيّن باكتشاف الكلمات الأساسيّة التي تتعيّن بتواترها، وبموقعيتها، وهي ما نطلق عليها الكلمة الموضوع والكلمات المفاتيح، والتّواتر والموقعيّة ووسع انتشار الحقل المعجميّ هي من أهم محدّدات الموضوع في الموضوعاتيّة المعجميّة، ويلي تلك الخطوة المنهجيّة الانتقال إلى التّحليل والبحث عن العناصر التّشكيليّة الحسيّة وتنظيمها والكشف عن علائقها الخفيّة ومحاولة ردّها إلى مركز واحد هو الموضوع/ وفي الختام يأتي البناء أو التّأويل والكشف عن العلاقات بين الكلمات الأساسيّة وشبكاتها المعجميّة، وعليه فإنّ الموضوعاتيّة المعجميّة منهج محايث وكامن أي ينطلق من النصّ ويركزّ فيه.

ومن هذا الإحصاء نصل إلى نصّ دورين سعد، فنرى أنّها تخوض معركة مع الكلمة، ومع التّعبير والقول، وهي تعلنها، إذ تقول: "أخالني أخوض معركة مع الأبجديّة"، وهذه المعركة تزداد تأزمًا معها فتقول في موضع آخر:

"كلّ الكلمات التي استعرتها من اللغة

لم تملأ ذلك الفراغ

كلّ ما تعلّمته من دروس لم يسعفني

وانا أعد النّقط وأهرب من الفواصل،

وأتحايل على الأبجديّة"

ولعل صراع الشّاعرة هنا لأنّها تبحث عن الحقيقة، فهي وإن رأت بأنّ أعمق عبارة هي "لا أعرف أن أقول"، فهي بذلك تقدّم حيلة تحميها من الإفصاح عن مشاعرها، فهي تخاف من لحظة معرفتها، إذًا هنا نرى الشّاعرة تعيش بين موقفين متضاربين فهي تنشد الهروب من الاعتراف بحبّها مع أنّ قصيدتها تتّجه إليه، فلم تعد بحاجة إلى إذن، فالشّاعرة تعيش لحظات القصيدة، فهي وإن كانت تنشد الهروب لكنّها تجد الكتابة تأسرها وتأخذها إلى عوالم أخرى، تقول

اتراه استوطن لغتي وصرت أسيرة

أم فكّ أسري ونزع عني كلّ القيود

كلّما ابتعدت عنه أجد قصيدتي تتجّه إليه

ولا تطلب إذن مرور.

وقد نرى أنّ الشّاعرة لا تحبّ لغة التّنميق، هي تميل إلى انبعاث القصيدة على السّجيّة بكلّ عفويتها، وتجربة الشّاعرة تنطلق في التّعبير عن الكلمة المعبّرة، وفي نصّها الموسوم باحتراق تعبير عن القصيدة التي تنشدها، حيث تقول:

كيف تحوّل العطر إلى حبال

استدارت حول عنق الكلمة

فتمزج الشّاعرة هنا بين العطر والمجسّد والملموس: الحبال/استدارة/ عنق. فتشابكت المشاهد مع الرّائحة، وامتزجت معًا، لترسم الحصار المعقود على الكلمة، وتناغمت الاستدارة مع العنق معبّرة عن الصّورة المحمّلة بانفعالات وأفكار ومناخ شعوريّ جديد. وتتابع الشّاعرة في التّعبير عن صراعها في البحث عن الكلمة فتشعر وكأنّها تورطت:

إن لمست الّليل

سأتورّط في حماقات الحلم،

وفي ملامسة اللّيل تمازج بين الحواس، بين اللّمس ورؤية اللّيل أي السّواد، ولعلّ الشّاعرة هنا في صراع نفسيّ داخليّ، للوصول إلى قصيدتها، لهذا تكون كالشّمعة التي تحترق، فهي وإن وجدت بأنّ كلماتها غير صالحة، إذ تقول:

و كلماتي لا تصلح أن ترسم

ملامح قصيدة

فهذا لا يمنعها بأن تجعل من أحلامها سرّا تخفيه إلى أن تعلن ثورة الكلمات، بحثًا عن الرّغبة:

خبأت في عيوني حلمًا تكسّرت على أطرافه

كلّ المسافات...

لا الصحف

ولا المجلّات...

أعلنت ثورة الكلمات وعصيان الحرف

حين تمرّدت كلّ الرّغبات...

يستمر الصّراع عند الشّاعرة بين الرّغبة وما يمكن أن تكتبه، فالكلمة لديها قادرة على أن تنقل كل المخفي والمكبوت، هي ثورة الحرف على الواقع.

ومن الهواجس التي تسيطر على الكاتبة في ديوانها ما له علاقة بالكلمة والكتابة، وقد تكرّرت هذه الفكرة في أكثر من قصيدة، وفي نصّها "لا حبر عندي اليوم"، تقول:

لا حبر عندي اليوم، لأشدّ ما تراخى على مطارف

 القصيدة،

تركتها تكتب نفسها بما توافر من ضوضاء ووجع...

إنّ الشّاعرة تعيش حالة القلق مع القصيدة والكلمة، تبحث عنها وتنشدها، وتعبّر عن ارتباطها العاطفي بالأب والأم، لهذا نرى بأنّها قد بدأت الدّيوان بإهداءين الأّول لأمّها، هذه الأم التي تغنّى بها كلّ الشّعراء، لكنّ كلمتها أيضًا لها تميز، إذ تقول:

لك تنحني قصيدتي

يا أوّل الكلمات

ويا آخر دمعة ذرفتها الأبجديّة

هاتي وجهك أقبّله

لعلّي أقبّل وجه الحياة.

وإذا رأت أنّ الأمّ هي أوّل الكلمات، فإنّ الشّوق يشدّها إلى أبيها، ويزداد قلبها ابتهالًا لوجه والدها، فيُشرق في قصيدتها:

لا تجزع!

لا تنظر في مرآتي!

أدثّرك معطفًا يقيني برد أيلول

ألملم بدموعي عرق عينيك

وكلّما غاب النّهار يشرق وجهك في قصيدتي...

وقد يكون القصيد خير معبّر عن علاقتها بالآخر/ الحبيب الرفيق، فهو المحفّز لما ستكتب:

أسمعك

حين تصمت اللّحظات

ويشتعل بريق الكتابة

يستمر الصّراع عند الشّاعرة بين الرّغبة وما يمكن أن تكتبه، فالكلمة لديها قادرة على أن تنقل كل المخفي والمكبوت، هي ثورة الحرف على الواقع

نعم، إنّ الإحساس بالكلمة يدخل مع كلّ لحظة عند الشّاعرة، فتصبح هي في يومياتها، وفي تفاصيل حياتها، وقد تكون في أعمالها اليوميّة، فيتماهى الحبيب مع القصيدة والكلمة:

أسمعك لأحيا

كلّما غبت عنّي

وصار صوتك قصيدة

وفي البحث عن هذا الحبيب الذي تربطه بما حملته الكلمة نجد أنّ الشّاعرة تغفر لهذا الحبيب الذي يخونها، ففي قصيدة "قبضت عليه"، هي تعيش مع ما تركه من الشّعر:

سأتركه ينثر الشعر

ويوزّعه في كلّ الحدائق

وأنا سأترجمه إلى كلّ اللّغات

قبضت عليه

يتسلل إلى قلبي

فالتمست له العذر

وأرسلت له قبلة في الهواء

نعم إنّ تأثير الكلمة فيها دفعت الذّات المرسلة في القصيدة إلى أنّ تغفر له، ولن أخفي ما لمسته في هذه القصيدة من تناص مع قصيدة نزار قباني "ماذا أقول له"، فإذا المرأة في قصيدة نزار لا تستطيع أن تهرب من الحبيب لأنّه قدرها والنّهر لا يملك تغييرا لمجراه، فهنا المرأة تلتمس العذر له عندما ينثر الشّعر. ومن التّناص أيضًا ما ورد من إيراد التفاصيل اليومية في حياتها:

لن أسأله اليوم عن سرّ فصل الشّتاء

ولا عن أحلام الأدباء والشّعراء

لن أسأله عن الفرق بين النّور والضّوء،

أو عن فلسفة العظماء...

لن أسمح له أن يعبث بشعري

وأن يقرأ معي في نفس الكتاب...

لن يدنو من مقعدي

ولن يرتشف معي القهوة من نفس الفنجان

سيشرب الشاي باردًا... وسأشرب القهوة ساخنة...

وسأقرا كل الكتب التي لا يحبّها،

والتي لم أسأله يومًا عنها

تذكر الشّاعرة بدقة تفاصيل العلاقة مع الحبيب، وكان نزار قد أورد هذه التّفاصيل في قصيدته:

ماذا أقول له لو جاء يسألني              إن كنت أكرهه أو كنت أهواه؟

ماذا أقول، إذا راحت أصابعه            تلملم الليل عن شعري وترعاه؟

وكيف أسمح أن يدنو بمقعده؟            وأن تنام على خصري ذراعاه؟

غدا إذا جاء .. أعطيه رسائله            ونطعم النار أحلى ما كتبناه

حبيبتي! هل أنا حقا حبيبته؟              وهل أصدق بعد الهجر دعواه؟

أما انتهت من سنين قصتي معه؟        ألم تمت كخيوط الشمس ذكراه؟

أما كسرنا كؤوس الحب من زمن               فكيف نبكي على كأس كسرناه؟

رباه.. أشياؤه الصغرى تعذبني          فكيف أنجو من الأشياء رباه؟

هنا جريدته في الركن مهملة             هنا كتاب معا .. كنا قرأناه

على المقاعد بعض من سجائره          وفي الزوايا .. بقايا من بقاياه

وإذا برز التّناص مع نزار فقد نجد التّناص الأسطوري في قصيدة وجه إنانا، وهي إلهة بلاد الرافدين القديمة المرتبطة بالحب والجمال والجنس والرغبة والخصوبة والحرب والعدالة والسلطة السياسية، لهذا تؤكد لها العرافة بأنّها تشبه أنانا:

النّسوة في بلادي كلّهن سيكتبن الشّعر

كلّهن يشبهن أنانا

وعبرها فهي تبحث عن الدفء الذي ترشدها العرافة إلى أّنه في اللّغة:

قالت لي العرافة:

ابحثي عن دفء يأتيك من أنّة ناي

ابحثي عن لغة حفرت في الهواء دربًا

تتماهى الذّات الأنثويّة هنا مع القوة، مع الجمال مع الرّغبة ولا يتحقّق ذلك إلّا عبر كتابة الشّعر، لهذا هي تبحث عنه ليحقّق لها أيضًا كينونتها ووجودها الاجتماعيّ الذي تراه بين الكادحين والحصّادين والمتألمين، وعليه فالكلمة عندها ليس جمالًا وزخرفًا، إنّما هي تعبير عن الحياة:

دعيني

أمارس فنون الكتابة على طريقتي

تعبت من تنمق العبارة ومن دلال القصيدة

تعبت من رعشة الأنامل ومن التّفكير بالحروف...

أنا لا أريد قصيدة ارستقراطيّة

تحلّق فوق الغيوم...

أريدها بدوية الألفاظ،

تهدهد حزنًا يرافقني منذ الطّفولة،

وتبحث معي عن ضحكة معلّقة فوق السّطوح.

هذه هي الحياة التي تبحث عنها الأنا الشاعرة في ديوان دورين سعد، لهذا وجدتها في الكلمّة أو الكتابة التي أرادت منها أن تكون فوق المألوف، من هنا كان الانزياح في التّعابير، واستخدام المفردة التي شكلّت بحقلها المعجمي بعدًا موضوعاتيًّا موحدًا جعل القصائد ترتبط بوحدة شعوريّة واحدة، وهذا ما جعلها تعنون الديوان بالنّحت على الهواء، ليكن خلقًا جديدًا وإبداعًا فوق العادة، وتحويل الهواء المتطاير الذي لا جسد ولا مادة له، كالتّمثال الذي ينحت ويعمل به.