تبادل خدمات.. ورهينة اسمها لبنان

اثبتت "حماس" أنها قادرة دائما أن تكون في خدمة نتانياهو وفي خدمة ايران في الوقت ذاته.

ليس صعبا فهم ابعاد الرسالة المتمثلة في اطلاق صواريخ من جنوب لبنان في اتجاه مستوطنات إسرائيلية حدودية. يبدو واضحا أنّ الرسالة التي أراد "حزب الله" توجيهها، عبر تلك الصواريخ، من نوع الرسائل المركبّة، خصوصا أنّه تبرّأ من عملية اطلاق الصواريخ واوحى بانّ "حماس" تقف خلفها.

يتوهّم الحزب بأنّ العالم لا يعرف أنّ لا وجود لشيء اسمه "حماس" في جنوب لبنان أو في أي منطقة لبنانيّة أخرى وأن لا مجال لإطلاق العاب نارية، وليس اطلاق صاروخ، من دون غطاء منه. العالم ليس بالغباء الذي يتصورّه "حزب الله" الساعي إلى اثبات أنّه ما زال لاعبا إقليميا من جهة وأنّ لبنان كلّه في جيبه الصغيرة من جهة أخرى.

أهمّ ما في رسالة الحزب، وهو أداة ايرانيّة بامتياز كونه مجرّد لواء في "الحرس الثوري" الإيراني، أنّه يريد ابلاغ كلّ من يعنيه الأمر أنّه غير معني بالإتفاق السعودي - الإيراني الذي رعته الصين. بكلام أوضح، ليس ما يدعو إلى أي ربط بين التهدئة بين السعوديّة و"الجمهوريّة الإسلاميّة" من جهة وبين سلوك "حزب الله" في لبنان من جهة أخرى. لدى الحزب مرشّحه لرئاسة الجمهوريّة يريد فرضه على اللبنانيين... وإلّا عليهم العيش إلى ما لا نهاية في ظلّ الفراغ الرئاسي.

من هذا المنطلق، ليس صدفة اطلاق الصواريخ من جنوب لبنان في يوم شهد لقاء في بيجينغ بين وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان ووزير الخارجية الإيراني حسين امير عبداللهيان. كانت نتائج الاجتماع إيجابية وكشف البيان الصادر عنه وجود رغبة لدى الجانبين في تطوير العلاقة بينهما بدءا بخطوة إعادة العلاقات الديبلوماسيّة إلى وضعها الطبيعي وتبادل الزيارات من دون حاجة بين الوزيرين إلى الذهاب الى بيجينغ. لا تبعد الرياض عن طهران اكثر من ساعتين، على حد تعبير وزير الخارجية السعودي. لم تعد من حاجة إلى الذهاب إلى الصين لعقد مزيد من اللقاءات السعوديّة – الإيرانيّة.

ليس صدفة أيضا اطلاق الصواريخ من جنوب لبنان في وقت كان إسماعيل هنيّة رئيس المكتب السياسي لـ"حماس" في بيروت لعقد محادثات مع الأمين العام لـ"حزب الله" حسن نصرالله وليجتمع بقادة الفصائل الفلسطينية الموجودة في سوريا ولبنان. لم تكن "فتح" في طبيعة الحال بين هذه الفصائل خصوصا أن الزيارات المتكررة التي يقوم بها هنيّة للبنان تستهدف، بين ما تستهدف، احكام سيطرة "حماس"، بدل "فتح" في السيطرة على المخيمات الفلسطينية.

يبدو أنّ إسرائيل فهمت هذا الجانب من رسالة "حزب اللّه" واطلاق صواريخ من جنوب لبنان. يتعلّق هذا الجانب بحسابات داخلية لبنانية للحزب تشمل بين ما تشمله إحلال "حماس" مكان "فتح" في المخيمات واثبات أنّ لا تأثير للتقارب السعودي – الإيراني على الوضع اللبناني. مثل هذا الفهم الإسرائيلي للرسالة، جعل الردّ على اطلاق الصواريخ من جنوب لبنان ذا طابع فولكلوري مع تكرار إسرائيل ترديد رواية "حزب الله" عن مسؤولية "حماس".  

كانت الصواريخ التي اطلقت من جنوب لبنان ومن غزّة والعملية التي استهدفت مستوطنين في الأغوار بمثابة هديّة لحكومة بنيامين نتانياهو التي تواجه ازمة لم يسبق لأي حكومة اسرائيليّة أن واجهت مثلها. يحصل ذلك في ظلّ انقسام عمودي للمجتمع الإسرائيلي. بات في الإمكان الحديث عن إسرائيليين وليس عن إسرائيل واحدة. إضافة إلى ذلك كلّه، أدى التصعيد الذي مارسته "حماس" بغطاء من "حزب الله" إلى اطلاق يد إسرائيل في قمع المصلين في المسجد الأقصى. فجأة، لم يعد هناك اهتمام بالوضع الداخلي الإسرائيلي، كما غابت احداث المسجد الأقصى عن الواجهة.

ما لن يغيب عن الواجهة في المدى الطويل، بغض النظر عن الهدايا التي تقدمها "حماس"، بكلّ ما تمثّله، إلى حكومة نتانياهو أنّ إسرائيل لا تمتلك أي رؤية سياسية للمستقبل، رؤية تأخذ في الإعتبار أن ليس في استطاعتها الغاء الشعب الفلسطيني. ليس ما يحدث في الأغوار، حيث قُتلت ثلاث مستوطنات اسرائيليات سوى دليل على ذلك. ستمرّ مرحلة الخدمات المتبادلة بين حكومة "بيبي" اليمينيّة المتطرفة و"حماس" والذين يقفون خلفها في ايران وغير ايران. ما الفارق عند إسرائيل، إذا كانت "فتح" تسيطر على المخيمات الفلسطينيّة في لبنان... أو حلت مكانها "حماس" في تلك السيطرة؟

ما سيبقى أنّ لبنان ما زال ضحيّة للتجاذبات الإقليميّة. مطلوب بقاء لبنان رهينة لدى "الجمهوريّة الإسلاميّة" التي يظهر أنّها مستعدة لتقديم تنازلات في اليمن في حين تبدو مصرّة على بقاء لبنان "ساحة" تمارس فيها هوايتها المفضلة المتمثلة في جمع اكبر عدد من الأوراق الإقليميّة في لعبة التفاوض مع "الشيطان الأكبر" الأميركي والأخذ والردّ الدائمين مع اسرائيل. يحدث ذلك في مرحلة لا وجود فيها لأيّ اهتمام حقيقي عربي أو دولي بمصير هذا البلد الذي تخلّى عنه قسم من أبنائه قبل أن يتخلّى عنه الآخرون.

سجّل كل طرف معني النقاط التي يريد تسجيلها. تنفست حكومة "بيبي" الصعداء في معركتها مع قسم من الشعب الإسرائيلي، وهي معركة محورها دور السلطة القضائية في إسرائيل. اثبتت "حماس" أنها قادرة دائما أن تكون في خدمة نتانياهو وفي خدمة ايران في الوقت ذاته. اثبت "حزب الله" أنّه المرجعية الوحيدة في لبنان وأنّ "الجمهوريّة الإسلاميّة" تتحكّم بكلّ مفاصل البلد. الأهمّ من ذلك كلّه، أنّ قواعد اللعبة ما زالت قائمة وأنّ لا خرق في العمق لقواعد هذه اللعبة التي تسمح لإيران برسم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، بغطاء من ميشال عون وصهره جبران باسيل رئيسي الجمهورية وقتذاك. كان ذلك في سياق تبادل الخدمات بينها وبين "الكيان الصهيوني" الذي تسمّيه "الشيطان الأصغر".

وسط كلّ ذلك، لم تجد وزارة الخارجية اللبنانية سوى اطلاق نكتة من نوع احتجاجها على خرق إسرائيل "السيادة اللبنانيّة" بدل ان تسأل نفسها ما الذي تفعله "حماس" وصواريخها في لبنان!