تمثلات الحوار بين الأنا والآخر في 'ترنيمة بلون الشوارع'

الذات في شعر عمار عزت هي ذات متشظية بين الأنا والآخر، السارد والمروي والمروي له، هي ذات تتأمل واقعها المنكسر وتحاول ترميمه من خلال عرضه على نفسها أولاً لتصويبه ثم عرضه على العالم لإقراره.

يقول أوكتافيو باث "بين ما أراه وما أقوله، وبين ما أقوله وما أصمت عنه، وبين ما أصمت عنه وما أحلم به، وبين ما أحلم به وما أنساه، هناك يكون الشعر".

القراءة المنتجة للتأويل تستدعي مخيلة ذات دربة اشتغال تمنحها القدرة على إنتاج نصوص تنم عن جهد معرفي بيّن. وان مسؤولية الشاعر: "تشكيل عوالم وسياقات التفاعل مع المتلقي وخلق خيوط وعناصر التواصل الحداثي معه لأن النص الشعري لا يشتغل ولا يُتَلقي ويُدرَك إلا ضمن سياق فني ودلالي خاص يؤدي دوره بفعالية في عملية انكشاف دلالات وأبعاد التراكيب والصور داخل النسق العام للنص . وعملية التشكيل الحداثي اللغة والإيقاع والصورة والرمز ليست عملية فوضوية واعتباطية لا تخضع لأي شرط واعتبار، أو أن الشاعر يملك فيها الحرية المطلقة ، وإنما تخضع في اشتغالها لمجموعة من الشروط الفنية العامة،لابد من مراعاتها وأخذها بعين الاعتبار ضمن حالة جدية بين الشاعر والنص والمتلقي المفترض".

وهنا في مجموعته الشعرية "ترنيمة بلون الشوارع" نقول لا شك أن العنوان هو العتبة التي يلج منها القارئ إلى داخل الكاتب "الشاعر". وفي كثير من الأحيان يتمّ تخطي هذه العتبة بسهولة ودون التوقف عندها؛ غير أنه في أحيان أخرى لا تسمح بعض العتبات بمرورها دون التوقف عندها وتأملها، اذن العنوان يدخلنا معه منذ البداية في متلازمة عارمة بين الترنيمة الموجعة والمكان الشارع فثمة تلازم بين الاثنين لأنهما محور الحياة .إذن تتمثل هذه المتلازمة في غناء الام ترنيمة اسى اخر الليل في حالة من العزلة والانفراد الذاتي.

وكما هو الحاصل في هذه المجموعة الشعرية والتي تشتمل على العديد من النصوص الشعرية تحمل في مضامينها مشاعر ذاتية جياشة استجابة لرغبة ذاتية غامضة، دوّنها ما يمليه إحساسه لم يتوقّف عن الكتابة إلّا بعد أن يشعر أنّه سكب على الورق أحاسيسه كلّها!، فالنصوص أقرب ما تكون مكتوبة بوحي خيال فنان، جميلة وموحية ولا يوجد تصنّع، ولا تزويقات لفظيّة في نصوص الدرامية والغالب عليها ذات الشاعر المتشظية.

ان إيمان الشاعر بالأفكار التي تؤازر الذات داخل هذا العالم وهو يدل على تشعب الإحساس الإنساني ووحدته داخل هذا الكون الذي يعيش فيه الشاعر وحيداً في معاناته بل إنها حالة نفسية جماعية لذا تعد سمة من سمات قصيدة الحداثة وقصيدة النثر بصفة خاصة وأعني بها قدرة الشعراء على خلق عالم جديد.

فالذات في شعر عمار عزت هي ذات متشظية بين الأنا والآخر، السارد والمروي والمروي له .هي ذات تتأمل واقعها المنكسر والتي تحاول ترميمه من خلال عرضه على نفسها أولاً لتصويبه ثم عرضه على العالم لإقراره، ومن هنا تتشظى إلي ثلاثة أقسام: ذات ساردة، ومروي لها، وذات العالم، لتترك مساحة من البوح والحرية لانطلاقها . ثم إن حالة الاعتزال تمثل الملهم الوحيد الذي يعطي الذات التعبير في حرية البوح. لأن الإنسان لا يصل إلى وعي ذاته إلا في حالة من الانفراد.

اذن هي غواياتٌ يومية تأخذنا إلى عالمِ مضاءٍ بالكلامِ الوجدانيِّ النابضِ.. المحلِّقِ في سماءِ المجازِ، دونها الشاعر شعريّاً وأخرجَها من مناخاتهِ بحالةِ رضىً نفسي .احتشدتُ فيها الغنائيَّةِ العذبةِ الرقيقةِ المموسقةِ الشفَّافة، المنبعثةِ من ناياتِ الوجدِ الشعريِّ الحزين..

اقتباس

"أوجاع قلم"

الوجع يبحر فينا

لان المرافئ الغريبة

رفضت ان تمنحه بطاقة اللجوء....ص47

الشاعر عمار عزت "شاعر عشق الادب منذ صباه بدا شاعرا يرسم الكلمات بصوره الموجزة المأخوذة من لوحة فنان الوانها جياشة ناطقة وضاجَّة بهدير الحياة،يكتب قصيدتهُ بثقةٍ عاليةٍ وحاسسيَّةٍ مرهفةٍ.. يقذفُ بها شهيَّةً في وجهِ الوجودِ. حيناً وجارحةً حيناً آخرَ.. هذا الشاعرُ المسكونُ بتجلِّياتِ الاسى والوجدِ والحبِّ والوطن - يجيدُ قنصَ لحظتهِ الشعريَّةِ المنفلتةِ يقتربُ من اليوميِّ العابرِ والتفاصيلِ المهملةِ .. يزيحُ عنها غبارَ النسيانِ..أشبه بهواجسَ يوميَّةٍ.. طافحةٍ بالحياةِ ولكنها ضاجةٌ باللوعةِ ومذاقِ الألمِ والصبابةِ في أماكنَ كثيرةٍ..

اقتباس

"كتبت له"

بعدما انقطع الرجاء بين الأرض والمطر...ماكنت "كودو" لكي أظل في انتظارك ابدا...

لكن لي ان اعشقك الى يوم القيامة كطفلة شرقية تصدق كل أكاذيب الليل ..

وتصحو على كذبة... ص 29

في نصوصه نجد جمال اللّغة، ومهارة اختيار الألفاظ التي توافق الغرض، وتشكّل البناء الموسيقيّ الدّاخليّ الثّر، والقصائد اغلبها توحي بطبع لا تكلّف فيه. فلا غرابة في ألفاظها ولا ابتذال، هي مزيج من التّصوير والخيال والتّشبيهات والاستعارة فبدت رائقة بعيدة عن الغرابة أيضا، اذن هي نصوص يبعثَ بها كاتبها مثل رسائل مناجاةٍ رقيقة ولكنها رسالئل عتبٍ هي مزيج من وجعٍ محزونٍ ممزوجٍ بنوستالجيا شفيفة:

اقتباس

"ترنيمة بلون الشارع"

أطلق السواد

وترنيمة الحزن في صوت امي

والرهبة التي ارضعتني

على ايقاع دللول ...دللول

من وجه عدو يسكن الجول

فزاعة الخوف التي تربصت ببراءتي

في حقل مصفر باوراق النواح

تلك بدايتي ....ص59

ففي اغلب النصوص حاول الشاعر ترويض اللغة لتكون قادرة على نقل الصورة الجديدة وتجسيدها من خلال المفارقة والتضاد والتناقض الظاهري لدفع المبدع إلى الانفلات من دائرة المباشرة والسطحية ، والدخول به في رحاب مغامرة لغوية تزخر بالجمال ، من خلال التشكيلات المتباينة لنقل تجربته المرتبطة بالتناقض الذي يملأ العالم .

اقتباس

"تبرئة"

وكيف كيف تولدين

من شفتي المهترئة

راقصة في حفلة من نور

على رماد المدفئة

وكيف كيف تعلمين

مسالك العبور

والكلب مايزال حول بيتك المهجور

يطالب الجمهور....بالتبرئة....ص 111

وختاما، لقد أمتعني هذا الدفق من المشاعر الجياشة في شعر عمار عزت الذي يحرص على الأصالة من غير تفريط بضرورة الحداثة. يكتب القصيدة الحديثة بثقة كبيرة بالرغم من الجدل الحاصل في كيفية كتابة قصيدة لازال الجدل قائم على شعرية قصيدة النثر بالرغم من مرور عقود على وجودها، الشاعر هنا أبحر بنا فهو الملاّح الذي يرتاد البحر هادئاً كان أم هائجاً، فيدرك أبعاده ويحمل منها غنائم وفيرة، ويعود من رحلته وقد اضناه الصراع مع العاصفة، لكنه غنيّ بما ملكت يداه من كنوز الخيال وثراء الروح.