تونس.. ستفتح عيونها وهي لم تغادر دار الإسلام

الإسلامويون الذين صوتوا لصالح الدستور التونسي وصادقوا على مبدأ المساواة في الحقوق والواجبات المتضمن في الدستور وصادقوا على اتفاقيات دولية تقر المساواة هؤلاء الإسلامويون اليوم هم أنفسهم من يقودون حملة التكفير والتهييج ضد هذه المساواة هم أنفسهم من يحملون الناس على معارضة كل ما صادق عليه الإسلامويون من قبل.

بقلم: هشام روزاق

ستفتح تون عيونها، كي تكتشف فقط، أنها وضعت يدها على أول مفاتيح بيت الإنسانية، وستنظر خلفها، كي تجدنا كما نحن، بلا بيت، بلا عيون مفتوحة، بلا مفاتيح باليد، وبلا بداية طريق خارج صحاري الشرق التي اقتحمت جغرافياتنا في إطار صفقة سياسية “دبرت بليل”، كي تؤجل كثيرا من حريتنا لصالح تعجيل كوابيس الاستبداد والسلطة، وكي يتنازل بموجبها الغرب “الإسلامي” عن “عقله” لصالح “نقل” الشرق.

في الجميلة تونس، استجابت السياسة قبل سنة، لنداء العقل، ولصوت الحكمة الذي علا مطالبا بالقطع مع حالة النفاق المزمنة التي تعيشها جغرافيات العرب والمسلمين، لتعلن اليوم، عن إقرار مقترح المساواة في الإرث، تأسيسا على كون الدستور التونسي، يقر المساواة بين النساء والرجال في الحقوق والواجبات.

لم يقبل الكثير من التونسيين، الصيغة واللغة التي اعتمدها الرئيس التونسي في إقرار مبدأ المساواة في الإرث بين الجنسين، واعتبروها في النهاية، مجرد نصف خطوة قد تحسم مع المشي المزمن نحو الخلف، لكنها لا تتجه إلى الأمام.

لكن الذي يهمني هنا، ليس هو غضب ولا حتى خيبة الكثير من التونسيات والتونسيون من نصف الخطوة هذه، والتي هي في الحقيقة، ليست خطوة فقط، بل هي مسيرة عدة أميال بالنسبة لشعوب ودول لم تطرح أصلا سؤال المساواة بين الجنسين، ولا تتخيل أصلا أن هناك حقوقا ما، يمكن أن تكون لكائن مغيب اسمه المرأة بل ولا تتخيل أصلا أن هناك كائنا موجودا اسمه امرأة.

الذي يحدث في تونس ببساطة، يضعنا أمام أحد خيارين: أن نعتبر المستقبل أمرا ممكنا، أو أن نولي وجوهنا إلى حيث الصحاري، تعتبر أجمل المستقبل، هو ما حدث قبل قرون خلت.

الذي يهمني هنا، هو ما يتيحه القرار التونسي بشأن المساواة بين الجنسين، من إعادة اقتفاء أثر الدجل والنفاق والكذب الذي يمارسه الإسلامويون في السياسة وفي الدين،

في كل مرة يطرح سؤال طبيعة الدولة ونموذج الحكم على الإسلامويين، تتسابق ألسنتهم نحونا، كي تبشرنا بدولة مدنية، وبفصل السياسة عن الدين، كما قالت حركة النهضة التونسية نفسها، ذات يوم من أيام مايو/أيار 2016.

حركة النهضة، التي طبل لها الكثيرون حين قالت إنها قررت فصل السياسة عن الدين، هي نفسها الحركة التي قال رئيسها “راشد الغنوشي” إن “النهضة ستتحول إلى حزب يعمل في السياسة فقط”.

يقول الإسلامويون إذن، إنهم يفصلون السياسة عن الدين. يقولون إنهم يريدون دولة مدنية تضمن الحرية والمساواة أمام القانون وحرية العقيدة وممارسة الشعائر للجميع، لكن.

ما إن تحاول دولة ما الخروج من بعض البداوة المفروضة عليها، والتوجه نحو بعض من معنى التمدن، إلا ويخرج الإسلامويون كل الخيام المنصوبة في رؤوسهم، كي يعودوا بنا إلى صحاريهم القاحلة، وكي يعتبروا كل فعل حرية أو مساواة، مسا بالدين وبالله وبكل مقدس. بكثير من اجتهاد وإبداع، استطاع الإسلامويون تحقيق الأهم… استطاعوا الفشل في ممارسة السياسة. وفي طريق تحقيقهم لهذا الإنجاز، لم ينسوا تحقيق الكارثة، لم ينسوا ممارسة أبشع أنواع الاغتيال ضد الدين. ضد معنى الإسلام.

في تونس، ومباشرة بعد الإعلان عن تشكيل لجنة الحريات الفردية والمساواة، ومباشرة بعد وضع هذه اللجنة لتقريرها العمومي في يونيو\حزيران 2018، الذي يقدم مجموعة من المقترحات الداعمة للحريات الفردية والمساواة التامة بين المرأة والرجل في الحقوق والواجبات، إضافة إلى إلغاء عقوبة الإعدام وضمان حرية الفكر والمعتقد وغيرها من التوصيات والمقترحات، مباشرة بعدها، تكشفت حقيقة الدولة المدنية التي يريدها الإسلامويون، واتضحت حقيقة فصل السياسة عن الدين التي طالما بشرونا بها.

في تونس، الذي حدث ببساطة، هو أن الإسلامويين الذين صوتوا ذات يوم لصالح الدستور التونسي، والذين صادقوا على مبدأ المساواة في الحقوق والواجبات المتضمن في الدستور، والذين صادقوا أيضا على اتفاقيات دولية تقر المساواة، هؤلاء الإسلامويين اليوم، هم أنفسهم من يقودون حملة التكفير والتهييج ضد هذه المساواة هم أنفسهم، من يحملون الناس على معارضة كل ما صادق عليه الإسلامويون من قبل.

بكثير من اجتهاد وإبداع، استطاع الإسلامويون تحقيق الأهم، استطاعوا الفشل في ممارسة السياسة، وفي طريق تحقيقهم لهذا الإنجاز، لم ينسوا تحقيق الكارثة، لم ينسوا ممارسة أبشع أنواع الاغتيال ضد الدين. ضد معنى الإسلام.

في النهاية، القرار التونسي، الذي نتمنى أن يتوج قريبا بمصادقة البرلمان عليه، يعيدنا بالأساس إلى سؤال نموذج الحكم وطبيعة الدولة التي يريدها الإسلامويون، والتي مهما اجتهدوا في التمويه عليها والسكوت عن حقيقتها، إلا أنها سرعان ما تتكشف أمام أبسط الاختبارات.

الذي يحدث في تونس الآن، يكشف الكثير من طبيعة الحركات الإسلاموية، التي لا يهمها في شيء، أن تمارس كل أنواع الكذب تجاه سؤال الدولة المدنية وفصل الدين عن السياسة، بقدر ما يهمها أن تواصل الزحف على مؤسسات الدولة من أجل تحقيق الغاية الكبرى، السلطة.

الذي يحدث في تونس، هو ببساطة، عودة العقل إلى مهده في جغرافيات الغرب الإسلامي، بعد قرون من استيطان النقل المشرقي. هو ببساطة، استعادة لوهج الاجتهادات المميزة التي بصم عليها العقل في تونس والمغرب، ومحاولة للانفلات من قبضة النقل الذي داهمنا منذ زمن، باسم الدين والسلطة، والذي أنتج حركات إسلاموية مرتبطة بقضايا وحسابات لا تمثل التراكمات التي حققها العقل في كل المغرب الكبير، بقدر ما ترتبط بمصالح وإيديولوجيات مشرقية مطيتها الدين، ووجهتها الاستبداد، وطريقها معبد بالبترول والمال.

ما إن تحاول دولة ما الخروج من بعض البداوة المفروضة عليها، والتوجه نحو بعض من معنى التمدن، إلا ويخرج الإسلامويون كل الخيام المنصوبة في رؤوسهم، كي يعودوا بنا إلى صحاريهم القاحلة، وكي يعتبروا كل فعل حرية أو مساواة، مسا بالدين وبالله وبكل مقدس.

في تونس، نستطيع اليوم، أن نحلم مع رئيس تونسي متقدم في العمر، بكثير من لغات الحرية، عوض أن نتشبث بكوابيس حاكم شرقي شاب، اعتبر أن غاية الحرية سياقة امرأة لسيارة، واعتبر أكبر الجهاد، معاقبة كندا بإجلاء طلبة بلاده من جامعاتها، ومرضى وطنه من مستشفياتها، عوض أن يفتح سجون دولته ويخرج المظلومات والمظلومين منها، الذي يحدث في تونس ببساطة يضعنا أمام أحد خيارين: أن نعتبر المستقبل أمرا ممكنا، أو أن نولي وجوهنا إلى حيث الصحاري، تعتبر أجمل المستقبل، هو ما حدث قبل قرون خلت.