ثورة تصحيحية في العراق.. عاصمة وثلاثة برلمانات

أغفل الدستور العراقي ذكر اي اشارة او نص يفرض وجود برلمان واحد في بغداد.
بإمكان الاحزاب الشيعية فرض اي قرار حتى وان كان ضد مصلحة بقية المكونات
كل المواد الدستورية التي تتحدث عن البرلمان تتضمن الحديث عن نسب وليس اعداد
المكونات السياسية علقت تشكيل مؤسسة دستورية مقابل الاعتماد على مبدأ التوافق

الدستور هو عقد سياسي يحوي مجموعة مبادئ تجمع اطراف سياسية حول بنود ملزمة التطبيق، ومتفق عليها، تنظم سلطات الدولة واداراتها، تتضمن صلاحيات الحكام وحقوق المحكومين فيها، واي اخلال بفقرة من فقراته يستدعي محاسبة الجهة المقصرة، وتكون الجهة المتضررة في حل من الالتزام ببنوده الاخرى.

بمراجعة مواد الدستور العراقي ومدى تنفيذ الاطراف السياسية لبنوده خلال الستة عشر سنة الماضية، يتضح لنا جليا ان ما يزيد عن خمسين بندا لا يزال معلقا لم يتم تنفيذه او الالتزام به. ادى عدم تنفيذ قسم منها الى تبعات سياسية كبيرة بين المكونات العراقية كتلك المتعلقة بالمناطق المتنازع عليها.. وقسم اخر يؤدي عدم تنفيذها الى نسف العملية السياسية بمجملها وابطال كل القوانين التي شرعت منذ اقرار الدستور ولغاية يومنا هذا، كالامتناع عن تنفيذ البند المتعلق بتشكيل المجلس الاتحادي، ففي الباب الثالث ضمن السلطات الاتحادية ينص الفصل الاول - المادة 48 على ان "السلطات الاتحادية تتكون من مجلس النواب ومجلس الاتحاد". وهذا يعني ان مجلس الاتحاد لا يقل اهمية عن البرلمان العراقي دستوريا، فكلاهما يشكلان مع بعض جناحا السلطة التشريعية في العراق، وبما انه لم يتم البت في تشكيل المجلس الاتحادي لغاية اليوم، فان السلطة التشريعية في العراق غير متكاملة، الامر الذي يرفع الشرعية عن السلطات الاتحادية ويجعل من الاقتصار على البرلمان العراقي كمؤسسة تشريعية وحيدة في العراق امرا غير دستوري، وبالتالي فمن الناحية الدستورية يمكن الطعن بكل القرارات والتشريعات التي شرعها البرلمان منذ الالفين وخمسة ولغاية يومنا هذا.

اذا ما الذي ادى بالاطراف السياسية العراقية الى التغاضي عن تشكيل المجلس الاتحادي لغاية اليوم؟

ان ما دفع هذه الاطراف للاكتفاء بالبرلمان دون المجلس الاتحادي هو سببان:

الاول.. عدم رغبة الاطراف السياسية في عرقلة مسيرة العملية السياسية نظرا للظروف الحساسة التي كانت تمر بها عملية تشكيل ما سمي بالعراق الجديد.

ثانيا.. اتفاقهم على ان يكون مبدأ "التوافق" هو السائد في تشريع القرارات في البرلمان دون احتكار من قبل طرف من الاطراف.

وهكذا فان الاتفاق على اعتماد مبدا "التوافق" في تشريع القوانين في البرلمان الغى الحاجة الى وجود المجلس الاتحادي الذي كان الغرض من وجوده اساسا هو الابقاء على القرار الجمعي في العملية السياسية.

بمعنى اخر فقد جرى "التوافق" بين المكونات السياسية على تعليق تشكيل مؤسسة دستورية مقابل الاعتماد على مبدا " التوافق" في تشريع القوانين في البرلمان.

والمفارقة الان تكمن في ان البرلمان الذي شرع وجوده بناء على مبدا التوافق، جاءت الكتل النيابية الشيعية بعد سنوات لتنهي هذا المبدأ في تشريع القوانين، وتلجا الى مبدا الاغلبية النيابية في عملها داخل البرلمان، وبذلك يكونوا قد الغوا المبدا الذي اجيز للبرلمان التفرد بتشريع القوانين، فافقدوه مسوغات وجوده.

ان احتكار الكتل الشيعية للقرار داخل البرلمان يعتبر انقلابا على العملية السياسية وضربا لمبدأ الديمقراطية التي بنيت على اساسها، وضعت اللمسات الاخيرة لدكتاتورية الاغلبية التي دابت هذه الكتل على التخطيط لها منذ سنوات. فبامكان الاحزاب الشيعية فرض اي قرار حتى وان كان ضد مصلحة بقية المكونات، وشهدنا كيف مرر قانون الحشد الشعبي، وقانون خروج قوات التحالف من العراق، وكيف تمرر مشاريع الموازنة كل سنة دون الالتفات لآراء بقية الكتل. بمعنى اخر، ان البرلمان الحالي اصبح برلمانا لمكون واحد دون بقية المكونات، وهو اختزال للدولة في ذلك المكون.

 وهكذا اصبح البرلمان خطرا على مستقبل بقية مكونات العراق بدلا من ان يكون ضامنا لحقوقها.

ان الدفع باتجاه حل البرلمان قد يكون بداية لتصحيح المسار الديمقراطي في العملية السياسية، لكنه ليس حلا مضمونا في هذه الظروف، فقد يؤدي الى تبعات سياسية لا يمكن السيطرة عليها، بيد انه يمكن التفكير بتغيير ماهية البرلمان العراقي.

هناك قاعدة فقهية يمكن الاعتماد عليها في موضوعة البرلمان دستوريا وهي "ان الاصل في التشريعات هو الاباحة ما لم ترد نصوص تمنعها"... فبنود الدستور وفقراته المتعلقة بالبرلمان لم تحدد ماهية البرلمان العراقي، او مواصفاته، ولا هيكليته، ولم تضع شروطا معينة في كيفيته. وما نراه اليوم من كينونة البرلمان وتركيبته، ما هو الا نتاج عرف سياسي توافقت عليه الاطراف السياسية العراقية. لكن ذلك لا يعني انه ليس بالامكان وضع ماهية اخرى للبرلمان العراقي مختلفة عن ماهيته الحالية.

فقد اغفل الدستور العراقي ذكر اي اشارة او نص يفرض وجود برلمان واحد في بغداد، وليست هناك نصوص تمنع وجود اكثر من برلمان في العاصمة، وكل ما مذكور من نصوص دستورية حول البرلمان هو توضيح لصلاحياته، دون الاشارة الى اعداده او انواعه، وبذلك يمكن الاستفادة من التغافل النصي عن ذكر عدد او ماهية البرلمان وشكله، وتأويله حسب مصلحة المكونات العراقية، بالدفع لتشكيل اكثر من برلمان اضافة للبرلمان الحالي الذي يمكن اعتباره برلمانا للمكون الشيعي، وتشكيل برلمان اخر يضم الكرد والسنة.. او برلمانين، احدهما للكرد، والثاني للسنة، في العاصمة الاتحادية بغداد. تعقد جلساتهما في مبنى البرلمان العراقي.

كل المواد الدستورية التي تتحدث عن البرلمان تتضمن الحديث عن نسب وليس اعداد، وبذلك لا يصطدم عدد مقاعد النواب السنة في البرلمان السني المنشود، او عدد مقاعد النواب الكرد في البرلمان الكردي المنشود، مع البنود الدستورية، والمادتان الوحيدتان اللتان تتحدثان عن اعداد محددة للبرلمان هما:

المادة 58 - اولا، وتنص على انه:

لرئيس الجمهورية، أو لرئيس مجلس الوزراء، أو لرئيس مجلس النواب، أو لخمسين عضواً من أعضاء المجلس، دعوة مجلس النواب إلى جلسةٍ استثنائية، ويكون الاجتماع مقتصراً على الموضوعات التي أوجبت الدعوة إليه

كذلك المادة 60 – ثانيا، وتنص على انه

مقترحات القوانين تقدم من عشرةٍ من أعضاء مجلس النواب، أو من إحدى لجانه المختصة.

وكما نعرف فان عدد مقاعد النواب السنة والنواب الكرد تتعدى الاعداد المذكورة، وهو ما لا يتعارض مع هذه المواد الدستورية، اما بقية المواد فتتحدث كما قلنا على نسب، مثل "اغلبية" او "ثلث" ونسب اخرى، دون الدخول في احتساب اعداد المقاعد. عليه فان تشكيل ثلاث برلمانات متعددة في بغداد لا يصطدم مع اي نص دستوري ويعتبر اكثر شرعية من وضع البرلمان العراقي الحالي المسير بدكتاتورية الاغلبية التي تتعارض مع مبدا التوافق والديمقراطية المنشودة.

ان تشكيل عدة برلمانات في بغداد يعتبر حركة تصحيحية لترسيخ مبدا الديمقراطية في العملية السياسية، من خلال محورين:

الاول... يعتبر ضمانا لحقوق المكونات الاخرى التي حاول مكون الاغلبية استباحتها من خلال التحكم بقرار البرلمان واحتكاره لمصالحه.

الثاني...يعتبر خطوة متقدمة عن خطوة تشكيل الاقاليم التي منعتها الكتل البرلمانية الشيعية، فالمكون السني الذي كان مع كل محاولة تشكيل اقليم له ينعت بكل ما في قواميس اللغة من كلمات تخوين وتبعية، يستطيع من خلال هذا البرلمان ان يحافظ على نفس الحقوق التي يطمح المحافظة عليها في تشكيله للإقليم.

ان ارجاع تاثير القرار السياسي لبقية المكونات الى العملية السياسية مهمة وطنية يجب على الجميع العمل عليها، سواء بتشكيل المجلس الاتحادي، او بتشكيل برلمانات متعددة كما اسلفنا، ولا يمكن ان تدار الدولة برؤى مكون واحد سواء كان هذا المكون شيعيا ام كرديا ام سنيا، فعلى الجميع ان يدركوا ان العراق دولة اتحادية وليست مركزية.