ثيمتا المرأة والوطن في الأدب التونسي من خلال دراسة لرواية 'نساء هيبو'
يقال إن الكلام على الكلام صعب، غير أننا وجدنا أن الكلام عذب في دراسة رواية "نساء هيبو وليال عشر" للروائية حفيظة قارة بيبان، بنت البحر. فهنالك الرواية ثرية سخية، فكيفما قلبتها جادت عليك بمكوناتها وخباياها، وكيفما وجهتها سبحت بك في كل اتجاهاتها. وقد جادت علينا بوريقات عشر، وقد ارتأينا عنونة هذه الدراسة بـ"نساء هيبو ووريقات عشر". هذه الوريقات هي إضاءات وومضات، أرجو أن تنير دربنا وتعقد ألفة بيننا وبين الرواية. وقد كانت هذه الوريقات محيطة بما هو فني، آتية على ما هو دلالي. وقد بوبنا كما يلي: خمس وريقات للجانب الفني وخمس وريقات متصلة بالدلالة. هذه الوريقات تشي ببعض السمات المميزة للرواية، ولا تحيط بها كل الإحاطة، فالرواية أوسع فنياً ودلالياً من أن تحد فيما سنشير إليه.
I - الجوانب الفنية في "نساء هيبو وليال عشر"
1- الوريقة الفنية الأولى في بنية الكتاب
يكفي أن نتأمل العنوان حتى نتبين خطة الكاتبة في حبك بنية الكتاب، فهو مقسم إلى "ليال عشر"، وهذا الاختيار ضارب في القدم متجذر في التراث، يحيلنا على هندسة أمهات الكتب مثل "الإمتاع والمؤانسة" للتوحيدي و"ألف ليلة وليلة". فكاتبتنا شهرزاد تقص علينا على مدى الليالي العشر حكايتها، حكاية بطلاتها.
لكن بنية هذه الحكايا موغلة في صميم الحداثة، وأول مظاهرها التصدير لإبراهيم الكوني ص 7: "الضحية شرط لاصطياد الحقيقة"، وتبدو حداثتها في عدولها عن مفهوم الفصول إلى مفهوم الليالي، تطول وتقصر وتظهر وتتكرر حسب مشيئة مبدعة هذا النص، لعلها لغاية ارتأتها.
ومن مظاهر الحداثة أيضًا الراوي الجمع الذي اضطلعت بوظيفته شخصيات نسائية. إلا أن العجيب الغريب في الرواية هو البحر السارد للأحداث، وتتجلى الحداثة أيضًا في اختيار الكاتبة نهاية مفتوحة تفسح المجال لبداية جديدة.
ولهذه الرواية بنية معكوسة، فقد بدأت بنهايتها بالليلة العاشرة، فيها خلعت سناء الراشدي روب المحاماة: "أنا سناء الراشدي، الأستاذة المحامية لدى محاكم الاستئناف، رافعة راية القانون، أعلن أنني اليوم أنزع روب المحاماة".
فالبداية تشي بالنهاية، فهي لا ترتكز على الأحداث بل قيمتها في البعد النفسي، فهي تتبع وقع الأحداث في نفوس الشخصيات.
ولها أيضًا بنية دائرية، فهي تبدأ بالهدير وتنتهي به، تثبت أن هدير البحر هو ثورة النفس، بركان حممه يغادر الذات الملتاعة من أجل أوضاع الوطن لتعود إليها مضاعفة الألم.
هكذا تبدو لنا جدلية التراث والحداثة في بنية الرواية، بل هي إلى الحداثة أقرب، إذ أن الكاتبة نهلت من الموروث الأدبي القديم إن لم تنقطع عن أصولها الثقافية، لكنها تجاوزتها لتكون الرواية متشبعة بروح الحداثة.
2- الوريقة الفنية الثانية في بنية الزمان
يبدو لنا منذ الوهلة الأولى أن العنوان يحدد الزمان، فالرواية تمتد على عشر ليالٍ من شهر ديسمبر (16-->26). لكن القراءة المعمقة للزمن في طيات الكتاب تجعل الزمن يمتد إلى أيام، مستغلة ظاهرة طبيعية تعاقب الليل والنهار. إن كان الزمن أوسع من عشر ليالٍ، وقد قامت حركته على الارتداد، فهو يرتد بنا إلى الماضي القريب، ماضي الثورة التونسية 2011، ثم إلى الماضي البعيد من خلال العودة إلى طفولة الشخصيات: نادر وأحلام وسناء.
"نادر الذي لا ينام إلا مع كتاب، مذ كان طفلاً، أستلقي قربه تحت تاج سريره، نقرأ معًا قصة مشوقة قبل أن ينام على أجنحة الحكاية".
ثم إلى ماضٍ أبعد، ماضي هيبو أيام كان أهل بنزرت يتنقلون بالبطاح.
لئن كان الوقوف عند الحاضر إعلانا للوجع والضياع بمفهومه الفردي والجماعي، فإن الارتداد مثل عزاء وبعض التخفيف من آلام الشخصيات ضحايا الإرهاب والمخدرات وأوضاع عطنة كما وصفتها الكاتبة.
وللزمن حركة ثالثة هي الاستشراف، تبشر الكاتبة بعالم أجمل وثورة ناجحة، لأنها تؤمن كما الشابي بقوة إرادة الشعب.
3- الوريقة الفنية الثالثة في هندسة المكان
يحدد العنوان المكان تحديدًا طريفًا، إذ يعود بنا إلى الاسم القديم لمدينة بنزرت "هيبودياريتيس". وقد أبدعت الكاتبة في تحديد المكان، وقد انقسم إلى عام بنزرت وخاص أحياؤها. يمكن من خلال الرواية أن تخرج بخطاطة لمدينة بنزرت، فهي مدينة ساحلية يحيط بها البحر، وسيلة ولوجها البطاح قديمًا والجسر المتحرك حديثًا لتستقبلك أحياؤها العتيقة كحي الأندلس وحي الجلاء الذي غزته الحضارة: "عمارات متشابهة على ربوة حي الجلاء" ص 209.
وتوغل الكاتبة في التدقيق فتورد العنوان التالي: "9 نج الشهيد، حي الجلاء، العمارة رقم 9" ص 208. وهذا التدقيق يجعل السؤال يلح علينا: هل إذا قصدنا هذا العنوان وجدناه؟
ومهما كانت هندسة المكان مكر خيال، فإن زيارتك لمدينة بنزرت تجعلك تقف على واقعيته. فهو متجذر في الواقع.
4- الوريقة الرابعة في الشخصيات
إن الملفت للانتباه أن محور الرواية شخصيات نسائية: مريم وأحلام وسناء وغادة ودنيا ودجلة وشهرزاد.
لكن هذا لا يستثني حضور الشخصيات الرجالية مساعدة لها، كنادر وسعيد وحمد الشريف وزهر والأب. وكأنها وجدت لتخدم شواغل الشخصيات النسائية، فنادر كان أداة لتصوير حرقة الأم وإجهاض أحلامها، أما المحامي فكان شخصية مساعدة عكست طموح الأم واستماتتها في تبرئة ابنها.
أما الزوج سعيد فوظف ليصور بدوره معاناة المرأة الزوجة الحبيبة، إذ لم يكن مصدر سعادة لها في حاضرها، فهو غائب: "أنتظر أن تطل من الفضاء الوحيد المتاح للغرباء المتناثرين في أطراف الدنيا... ولكنك تصر على الغياب. لا أثر لك على صفحة الفايسبوك ولا على هاتفك" ص 195.
هذه الشخصيات كتل أوجاع، ما نكاد ننسى جرح إحداها حتى تنكشه أخرى.
هذا التصنيف للشخصيات حسب جنسها يجعلها مألوفة، لكن ما يجعلها لا مألوفة هو حضور شخصية محورية تفتتح الرواية وتتوسطها وتنهيها: البحر المبثوث في كامل الرواية، الناطق من خلال هديره. له هدير أول وهدير ثان وهدير ثالث وهدير أخير. فهو الذي أنطق الرواية وكان قادحًا لها ليحملها على البوح بأوجاع بطلاتها: "أبدأ الرواية بصوتك الصاعد إلى السماء ناثر الزبد" ص 14.
هذا الامتداد المائي فاعل في الأحداث، يدفعها نحو التقدم ويكشف عن نفسية الشخصيات. فهو مصدر طمأنينتها وحاملها على الصبر: "من بلور النافذة المقابلة لاح البحر في بهرة ضوء الصباح. لامس شذاءه وجهي، دعاني إلى مزيد الصبر" ص 58.
وهو أيضًا المخبر عن أوجاعها وغضبها وثورتها، فجعلته الكاتبة ثائرًا إلى درجة الجنون. فحركته غير موزونة، فقدت الاتزان، هي ضرب في جسد الأرض والسماء، ضرباته مستقرها القتلة. غضبه طال الإنسان والبنيان ليشمل الكون.
وتبلغ الطرافة منتهاها في شخصية البحر بمساءلتها واعتبارها شريكة في الجريمة. فالبحر هو الذي مهد السبيل لاغتيال العالم محمد الضاوي، فعبره ولج القتلة، وهو الذي حمل مراكب المجرمين وساعدهم على الهروب، وهو المساعد على الحرقة: "وهل يمكن أن تكون شريكًا في الجريمة؟ وقد أخذت القتلة إلى الفرار على مراكبك؟ وعلى البحر أن يبرئ نفسه فيصرخ في وجه الإدانة عاليًا: صرخ البحر عاليًا في وجه الإدانة الموجعة، أغرقني هديره الغاضب أمام السؤال: كيف يتحول بحر الحرية والنجاة إلى سبيل للموت والجريمة؟" ص 168.
وقد أسندت الكاتبة للبحر وظائف أخرى، فهو مصدر النبوءة والباعث على الحياة: "كان البحر خلف الروح يدفعنا إلى المقاومة والتمرد، فكيف لنا أن ننهزم إذا كانت الحياة تدفعنا إلى الرفاه؟" ص 214.
5- الوريقة الخامسة في البناء الفني
من خلال هذه المعاينة الفنية للجانب المكاني والزمني والشخصي والبحري، نتبين أن هذا النص الروائي يمتاز بلغة تصاعدية متسارعة معتمدة على التوتر. تتأسس الجمل على التنقل في الأزمنة والأمكنة بين الماضي والحاضر والمستقبل، والشخصيات توظف دروب الحكاية لكشف جراحها.
II - الجوانب الدلالية في "نساء هيبو وليال عشر"
1- الوريقة الدلالية الأولى: البحر كرمز للحرية والمقاومة
سيتضح للناقد بعد الإطلاع على شخصية البحر أنه يحمل دلالات عدة، فهو يمثل المقاومة في وجه الدكتاتورية، ويمثل الحياة، وهو يمتلك القدرة على أن يمنح الإنسان الأمل في الثورة على الظلم والقهر، ولكنه أيضًا يحمل في ذاته تناقضًا يتمثل في كونه يحمل مراكب المجرمين، فيرى بعض الأفراد في البحر طريقًا نحو الانتحار والموت.
2- الوريقة الدلالية الثانية: الحرية في رواية النساء
تغرس الرواية في عمق الأحداث صراع الشخصيات بين الحرية والعرف الاجتماعي والمحيط التقليدي. فكل شخصية فيها تسعى إلى التحرر من سجنها، سواء كان السجن اجتماعيًا أو نفسيًا، وهذه الحرية تؤثر في حياة النساء بشكل خاص، إذ أنهن يسعين لتحقيق ذواتهن رغم القيود المفروضة عليهن.
3- الوريقة الدلالية الثالثة: العلاقة بين الوطن والمرأة
في هذه الرواية، تتشابك حياة النساء مع الوضع السياسي والاجتماعي في تونس، ويظهر ذلك من خلال الصراع الداخلي بين الحب والتضحية والحرية. المرأة في هذه الرواية هي رمز للوطن الذي يعاني من الهزات والدمار، وقد ربطت الكاتبة بين الشخصية النسائية والوطن المكلوم في فترة ما بعد الثورة. فكل شخصية نسائية في الرواية تبحث عن نفسها وسط هذا الفوضى، وتسعى لإعادة بناء حياتها مثلما يسعى الوطن لإعادة بناء ذاته.
4- الوريقة الدلالية الرابعة: الطبقات الاجتماعية والأيديولوجيا
أظهرت الرواية بشدة الطبقات الاجتماعية المتعددة والتفاوتات بين الشخصيات. نلاحظ أن الشخصيات التي تنحدر من طبقات اجتماعية متدنية غالبًا ما تواجه صراعات أكبر في المجتمع، سواء كان ذلك من خلال الحواجز الاجتماعية أو من خلال التعامل مع أفراد آخرين في السلطة. هناك نقد واضح لواقع المجتمع التونسي بعد الثورة، حيث تعيش الطبقات الأقل قدرة على التعبير عن نفسها في ظل تحولات سياسية لم تراعِ مصالح الجميع.
5- الوريقة الدلالية الخامسة: البحث عن الهوية
العنصر المحوري في الرواية هو البحث المستمر عن الهوية. حيث تمثل الشخصيات النسائية رحلة اكتشاف الذات، ومن خلال هذه الرحلة، تنكشف التوترات النفسية بين ما كانت عليه الشخصيات وما تريد أن تكون عليه. كما يظهر صراع الهوية في مستوى أعمق، يتعلق بمفاهيم الحق والعدالة والتضحية، ويظل السؤال مفتوحًا في وجه كل شخصية: هل يمكن للفرد أن يجد هويته في مجتمع تتصارع فيه العوامل السياسية والاجتماعية؟
هذه الوريقات الدلالية تكشف عن الطبقات المعقدة للرواية وتثير الكثير من الأسئلة حول معنى الحياة والموت، حول الهوية والتضحية، وحول علاقة الأفراد بالجماعة والوطن. هي رواية تبحث في تداخل الأبعاد النفسية، الاجتماعية والسياسية، وتقدم رؤية معقدة عن الذات التونسية بعد الثورة.
خاتمة
إن رواية "نساء هيبو وليال عشر" هي نموذج للأدب المعاصر الذي يجمع بين البحث العميق في الهوية الإنسانية والبحث عن الذات، ويستكشف تأثير الأحداث السياسية والاجتماعية على الفرد والمجتمع. من خلال بناءها الفني القوي ودلالاتها العميقة، قدمت حفيظة قارة بيبان عملاً يجسد صراع المرأة في سياق التغيرات الاجتماعية الكبرى، ويوضح كيف أن الأفراد، ورغم الألم والمأساة، يمكنهم أن يبحثوا عن نور الأمل وسط ظلمات الواقع.