'جدارية معتقة بالقهوة' يرسمها قصصيا هاني سعيد
لا يمكن نكران قيمة القهوة بوصفها تمثل حالة عند محتسيها، بل لا أكون مبالغا إذا قلت: وعند غير محتسيها، وقد التقطتْ المجموعة القصصية "جدارية معتقة بالقهوة" (دار فانتازيا للنشر والتوزيع، الكويت، 2024) للكاتب والناقد الأستاذ الدكتور هاني سعيد هيمنة هذه الفكرة، في صُنع جدارية من القصص القصيرة، التي تتداخل القهوة في تشكيل الحالات النفسية للشخصيات من أبطالها، فهناك حالات: الحزن، والجرح، والفرح، والحب، والسفر، والإيمان، والعز، والتاريخ؛ لتمثل كل حالة من هذه الحالات فلسفة خاصة رسمت القهوة معالمها، وكانت جديرة بعد ذلك بأن يصنع منها القاص (وبها) جداريةً متكاملة اللبِنَات.
وسوف يلمح القارئ خيطا يشد قصص المجموعة جميعا، وهو خيط القهوة وفنجانها الآسر، إذ لا تحيد واحدة منها عن هذا الخيط، وهو خيط لا يجنح لرسم فراغات ظاهرية، بل يسهم في نحت الشخصية نحتا مميزا، ومعلوم أنّ النّحْت لا يبلغ ذروة دلالته إلا إذا انعكس باطن المنحوت على ملامحه الظاهرة! ومن عجب-حقا- كيف لهذا البُن الناعم من قوة استطاع الكاتب من خلالها أن ينحت شخصياته ويحدد معالمها؟! فهي في قصة (القهوة/ جُرح) تُمثل مواساة، وفي (القهوة/ فرح) تُمثل بلوغا، وفي (القهوة/ إيمان) تُمثل تدبُّرا، وفي (القهوة/ سفر) تُمثل تسليةً، وفي (القهوة/ عزّ) تمثل زعامة، وفي (القهوة/ تاريخ) تُمثل عراقة، وفي (القهوة/ حُبّ) تُمثل جنونا، وفي (القهوة/ حُزن) تُمثل علاجا.
ولعلني لا أُدهش القارئ حين أقول: إن هذا ليس الخيطَ الوحيد الموجود في المجموعة، بل هناك خيوط ونكهات ودوائر دلالية تتغلغل كتغلغل البُن في فنجانه، ثم في مطاوي محتسيه وشاربه، وهذه هي مهمة القارئ والقراءة أيا كان نوعها.
لو شئنا القول: إنّ هذه المجموعة القصصية قد كُتبت بالبُنّ لا بالمحبرة لَمَا تجاوزنا الحقيقة؛ إذ تحوطها القهوة من كل الجهات، فالغلاف يعكس عوالم الناس مع فنجان القهوة العملاق، الذي يتوسّط الغلاف الأمامي، ومن حوله تتناثر حبّات البُنّ والسُّكّر، كما يتناثر أشخاص في أحوال حياتية مختلفة في إشارة إلى أن القهوة تمثل طقسا في رسم هذه العوالم، وقد جاء الغلاف الخلفي مُنمقا بحبات البن التي غطته بالكامل.
وإذا تجاوزنا الغلاف إلى محتوى القصص، فإننا نجد ثماني قصص، تحمل كل قصة عنوانا تشكل كلمة "القهوة" نصفه والحالة التي تتناولها القصة نصفه الآخر، فهناك: القهوة/جُرح، والقهوة/ فرح، والقهوة/ إيمان، ... ليتحقق لنا في النهاية معنى من وراء هذا الحضور الطاغي للقهوة في المجموعة القصصية، وهو أن كاتبها كان قد قصد إلى ذلك قصدا، فأراد أن يشكل حالات الشخصيات من أبطال مجموعته من خلال ولعهم بالقهوة، وهو ولع لم يتوقف عند التذوق، بل نجد الولع ممتدا إلى القهوة بوصفها حالة عصرية طاغية، لا نريد أن نسميها "موضة"، وإنما صارت علامة على أشياء مقترنة بها لا تنفك القهوة عن تفسيرها، فالحب وسهره وشروده لا يكون إلا بالقهوة، واندمال الجراح النفسية قبل الظاهرية لا يتحقق إلا بالقهوة، والفكر والتدبر مقرون بها، وتضميد ندوب الحزن المتوغلة في الروح لا يكون إلا معها "قهوة سادة"، هذه هي العلامات التي أراد الكاتب أن يصورها، ثم أحسن حين جعلها في جدارية، وقد اختار "الجدارية" إشارة إلى فعل الكشف الذي نجح الكاتب في التحول به من العمق إلى السطح، وهذا لم يتحقق –أيضا- إلا من خلال لغة واصفة جاءت على بساطتها مشتملة على عمق قرائي يحتاج وبشدة إلى قارئ يمتلك يقظة قرائية؛ حتى يتمكن من تحقيق هذه المعاني ومتعتها السردية المعتقة.
في مجموعته القصصية الرابعة "جدارية معتقة بالقهوة" التقط الكاتب هاني سعيد ما تمثله القهوة من قيمة حقيقية في ارتباطها بعلوّ المزاج المرتبط بسمو الفكر، إلى جانب تلك القيمة الأيقونية بوصفها علامة سيميائية عند محتسيها- وغير محتسيها- على حالات وعوالمَ إنسانيةٍ؛ لينسج من وراء هذا الزخم كله حكايات قصصه، ولينجح في رسم معالم أبطالها بدقة؛ بانيًا جدارية سردية متفردة، وقد جاء اختيار (جدارية) في العنوان ليُحيل إلى تلك المشهدية التي زخرت بها قصص المجموعة، إذ تتعالق المشاهد داخل الوحْدات السردية في حركية بان أثرُها في الوقائع والشخوص والأحداث داخل الحكايات، التي تتحرك عبر الأدوات السردية المختلفة من تداع، واستباق، واسترجاع، وتفاصيل تضفي على الأحداث حيوية وواقعية.
ويعود تميز هذه المجموعة القصصية إلى ما تمثله القهوة في البناء السردي لقصصها جميعا؛ غلافا، وعنوانا، وفكرة، ومضمونا. فالقهوة شريكة في هذا البناء، وما على القارئ سوى أن يُميط اللثام عن تلك الطبقة الشفيفة من الغموض الفني؛ ليصل إلى مبتغاه الدلالي ومن ثَمّ إلى متعة الحكي، تماما كما يفعل محتسي القهوة، فإنه يبدأ برشف طبقة البُن التي تغطي وجه فنجان قهوته، لينفذ بعد ذلك إلى عُصارتها؛ مستمتعا بمذاقها مع بقية الرشفات.
أما عن لغة الكاتب في هذه المجموعة، فهي لغة سلسلة تمتلك حسا ساخرا في التعبير عن الشخصيات، كما تميزت بالقدرة على التعبير عن المعاني العميقة بالسلاسة نفسها، وقد استطاع الكاتب أن يجعل للزمان لغة، وللمكان لغة، ولكل شخصية من الشخصيات لغة تصفها وتعبر عنها، ولذلك تنوعت المشاهد وتدفقت، ونجحت لغة الكاتب-أيضا- في رصد التفاصيل والجزئيات الدقيقة، التي تجعل كل حكاية مميزة عن الأخرى، فصارت كل حكاية تستدعي لونها الخاص، ورائحتها الخاصة، وصوتها الخاص، مما يؤهلها لتشكيل جدارية حكائية مضمخة بالوعي والترميز.