حدود التصعيد الإيراني الإسرائيلي

الرد الإيراني، أو الرد الإسرائيلي على الرد، أساسه حفظ ماء الوجه.

ثمة تاريخ ليس بقصير من التوتر الإيراني الإسرائيلي، حيث اتخذ اشكالا وانواعا متعددة، لكن بمعظمه اتسم بأعمال استخبارية، رغم وجود اعمال عسكرية مباشرة وان كانت قليلة نسبيا. ومرد ذلك النوع من التوتر الذي اتسم بلعبة حافة الهاوية، هو اعتماد طهران "سياسة الصبر الاستراتيجي" بهدف عدم السماح لتل ابيب جرها لحرب واسعة ستكون مكلفة جدا وتطيح بمعظم الإنجازات التي تمكنت ايران من بنائها خلال العقود الماضية، ومن بينها طبعا محتوى البرنامج النووي والتكنولوجيات الملحقة به، إضافة الى ذلك اعتماد طهران أيضا على سياسة الاذرع الأمنية في الخارج بدءا من العراق وسوريا ولبنان وليس انتهاء باليمن، وهي بذلك امتلكت وسائل ومواقع جيو استراتيجية قادرة على التحكم من خلالها وبشكل غير مباشر على مساحة واسعة من الردع الذي تمارسه ضد إسرائيل. وثمة العديد من الحالات الكبيرة التي سجلت بين الطرفين، ورغم اتساعها ظلت منضبطة الايقاعات والنتائج لكلا الطرفين ولفترات طويلة نسبيا ان كان عبر حروب 1993 و1996 و2006 في لبنان والعديد من المحطات في غزة 2008 و2010 و2012 وصولا الى طوفان الأقصى.

في المقابل، تمكنت إسرائيل أيضا من استيعاب مختلف المواجهات وعدم الذهاب بعيدا في سياسة المواجهات المباشرة، واكتفت بسياسات تهديد لخلق ردع فعال لكبح القوة الإيرانية وبخاصة في المجالات النوعية المتصلة بالبرنامج النووي وبرنامج الصواريخ البالستية التي تعتبره برنامجا مكملا للبرنامج النووي. واعتمدت في ذلك عنوة وليس برضاها على الضمانات الأميركية في مواجهة وكبح تلك البرامج رغم خروجها بعض الأحيان عن ذلك ولو بطرق مدروسة جدا حين نفذت مثلا قصفا لمنشآت لتخصيب اليورانيوم في ايران في العام 2018 وغيرها من العمليات العسكرية التي اتخذت طابعا استخباريا قابلا للاستيعاب.

الا ان ما جرى مؤخرا لجهة قصف القنصلية الإيرانية في دمشق، شكل تحديا للسياسات التي يتبعها الطرفان في المواجهات المحتملة. ففي قراءة بعض الوقائع ثمة تجاوز شبه قاتل، من الصعب ان تستوعبه طهران دون رد ما وبطرق ووسائل غير تقليدية كما جرت العادة. ففي السوابق بين الطرفين، نفذت إسرائيل العديد من الاغتيالات لقادة إيرانيين كبار منفردة او بإيعاز وإصرار منها وبتنفيذ أميركي مثلا كما حدث لاغتيال قائد فيلق القدس قاسم سليماني في العراق، إضافة الى العديد من عمليات الاغتيال التي نفذتها إسرائيل ضد قيادات حليفة لإيران في لبنان كالشيخ صالح العاروري وغيره.

لكن العملية الأخيرة ارتدت ابعادا أخرى. فطهران اعتبرت العملية موجهة جرت على أراض إيرانية باعتبار مقر القنصلية يتمتع بحصانات دبلوماسية وفقا لاتفاقيتي فيينا 1961 و1963 الدبلوماسية والقنصلية، إضافة الى القراءة الايرانية للعملية التي نفذت بطائرات أف 35 المنطلقة عبر الجولان وليس من فوق البحر المتوسط كما جرت العادة، ما فسرته ان ثمة رعاية أميركية للعملية وبموافقتها، ما اتخذته طهران مبررا إضافيا لاضافة الولايات المتحدة في عمليات الاقتصاص المحتملة والرد المفترض.

في الوقائع ثمة احتقان وتوتر غير مسبوقين في المستوى لجهة لغة التصعيد ومستويات النبرة عالية المستوى. إضافة الا ان تاريخ العملية وموقعها جاء ضمن سياقات المواجهة الجارية في غزة، ما يدخل أطرافا آخرين في المواجهات المحتملة، لاسيما وان التركيز مثلا على طائرات اف 35 اظهر تساؤلات أخرى حول كيفية سماح موسكو لهذا التسلل وتنفيذ مثل هذا النوع من العمليات دون مواجهة. وفي سياقات موازية ثمة دخول أميركي مباشر على خط مواجهة الردود المحتملة ضد إسرائيل او ضد قواتها المتواجدة في المنطقة، لاسيما وان سلسلة من العمليات التي وُجَهت لقواعد ومنشآت ومصالح أميركية في المنطقة.

ان الوضع القائم اليوم مختلف تماما عن السابق. فالتهديدات الإيرانية وان ظهرت كالردود السابقة، على قاعدة ان الرد سيكون في الزمان والمكان المناسبين مثل ما جرت العادة دون تنفيذ يتناسب مع حجم العمليات، الا ان التدقيق في الموضوع يظهر حرجا إيرانيا لجهة اختيار نوعية الرد والاهداف التي سيتم انتقائها عمليا. فهي والحال هذه ستنفذ الرد بنفسها وليس بالواسطة، وهو اشد خطورة لجهة إمكانية توسيع الحرب عبر الرد، والرد على الرد، ما يدخل المنطقة وادواتها العسكرية في المواجهة، وبذلك امكانية تحقق الرغبة الإسرائيلية في توسيع المعركة مباشرة مع طهران وجر واشنطن ودول أخرى اليها.

من المتوقع وبحسب الاعتماد على كيفية السلوك الإيراني في التعاطي مع الاحداث، أولا سيكون الرد مباشرا وليس عبر حلفائها في المنطقة، وبحسب ما هو شائع يمكن ان يطاول الرد مؤسسات اسرائيلية في الداخل والخارج، مع إمكانية شمول اعمال عسكرية لحلفائها ضد إسرائيل. وفي هذه الحالة سيتم استبعاد شمول القوات الأميركية في الرد لكي لا تسمح ايران للقوات الأميركية في توسيع المعركة والرد أيضا.

وبالاستناد الى سوابق المواجهة بين الطرفين، سيكون حجم الرد مدروسا بدقة وان كان نوعيا وقويا. فإيران لن تغامر بمعركة شاملة تطيح بالكثير من منجزاتها. فالرابح في المعارك هو خاسر أيضا في الحروب الشاملة والمباشرة. كما إسرائيل المنهكة حاليا في حربها مع غزة بدون دخول أميركي مباشر، وواشنطن المنهمكة بالانتخابات الرئاسية لن تغامر بحرب تخرج الديموقراطيين من البيت الأبيض، وبالتالي ان أي رد سيكون من النوع الذي يحفظ ماء الوجه للجميع دون احراج او استفزاز مقلق.