حدود الردع وضوابط الصراع الإسرائيلي الإيراني

نجاح الولايات المتحدة في اعتراض جميع طائرات الدرون والصواريخ القادمة من إيران، يمكن ان يسمح لإسرائيل الرد بعقلانية.

في إطار المساعي الأميركية لضبط الصراع الشرق أوسطي، يبدو واضحاً أن الولايات المتحدة تسعى إلى كبح جماح الصراع بين تل أبيب وطهران، وإبقاءه ضمن حدود صراع الظل ومنع تمدده. إلا أن المساعي الأميركية لم يُكتب لها النجاح، رغم محاولتها تأطير الصراع الإسرائيلي الإيراني، ليخرج الصراع من واقعه الحالي الذي استمر لسنوات طويلة، أو ما يعرف بحروب الوكالة، إلى صراع علني عندما شنت إيران هجوماً بالصواريخ والطائرات المسيرة على إسرائيل، وذلك رداً على الغارة الإسرائيلية في سوريا، التي أدت إلى مقتل عدد من كبار قادة الحرس الثوري الإيراني.

في المقابل فإن الولايات المتحدة انخرطت بشكل مباشر في الدفاع عن اسرائيل منذ السابع من تشرين الأول العام الفائت، بالتزامن مع مطالبتها الطرفين الإسرائيلي والإيراني بعدم التصعيد، وإبقاء حالة التوتر في حدودها الدنيا. لكن ثمة تساؤلات تبقى أو تكاد، دون إجابات نهائية. هي تساؤلات تتعلق بمدى وحدود الدور الذي ستلعبه الإدارة الأميركية في ضبط عناوين الصراع الإسرائيلي الإيراني؟ وهل تستجيب حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لمطالب إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن بعدم التصعيد؟ وإلى أي مدى يمكن أن تشارك الولايات المتحدة في حرب إقليمية أوسع في حالة خروج التطورات عن مسارها المضبوط بدقة؟

منذ السابع من تشرين الأول العام الفائت، كان واضحاً الجهد الأميركي في ضبط جماح كل من طهران وتل أبيب، ومنع الصراع بينهما من الإنزلاق إلى حرب أوسع، ورغم خروج الصراع عن مساره المحدد ووصول بعض شظاياه إلى القوات الأميركية، حيث قتلت الفصائل التابعة لإيران، ثلاثة جنود أميركيين في كانون الثاني الماضي، إلا أن واشنطن ردت بطريقة منضبطة ومحسوبة، أدت إلى إعادة ضبط المسار وردع إيران وفصائلها، وحالت في الوقت نفسه دون اتساع نطاق الحرب من غزة إلى مساحات أوسع.

في ذات السياق، فإن الهجوم الإيراني وفق المنظور الإستراتيجي، هو الانتقال إلى مرحلة البحث عن التوازن والردع المتبادل في المنطقة، وربطاً بذلك فإن إيران وجراء الهجوم الإسرائيلي الذي أسفر عن مقتل عدد من كبار ضباط الحرس الثوري الإيراني، وضعها في موقع الرد الحتمي لضرورات الحفاظ على الموقع والتأثير الإستراتيجي في المنطقة. ورغم التحذيرات الأميركية والإسرائيلية من تنفيذ الهجوم الإيراني، إلا أن طهران أدركت أن ثمن عدم الهجوم هو أعلى من الهجوم نفسه، فقد كان يتعين على طهران إعادة ضبط معادلة الردع في مواجهة إسرائيل.

نجاح الولايات المتحدة في اعتراض جميع طائرات الدرون والصواريخ القادمة من إيران، يمكن ان يسمح لإسرائيل الرد بعقلانية. ومن الواضح أن جو بايدن، حاول لجم حكومة نتنياهو عن الرد على طهران، إذ أكد في بيان أصدره البيت الأبيض أن إسرائيل أظهرت قدرة عالية على هزيمة الهجمات الإيرانية غير المسبوقة، وبعثت برسالة واضحة لخصومها بأنهم لا يستطيعون فعلياً تهديد أمن إسرائيل. كما كشفت وسائل إعلام أميركية عن أن بايدن أوضح لنتنياهو في مكالمة هاتفية عقب الهجوم الإيراني أن الولايات المتحدة لن تشارك إسرائيل في أي هجوم ضد إيران، وإن كانت لا تزال ملتزمة الدفاع عنها.

بهذا المعنى فإن الهجوم الإيراني وضع المنطقة على شفا حرب أوسع لا يريدها أحد، لكن وضمن منطق الوقائع، فإن ما حدث لا يُعد توسيعاً للحرب في غزة، بقدر ما هو نتيجة منطقية وطبيعة لعمق الصراع الإسرائيلي الإيراني، ليكون بذلك الرد الإيراني المباشر الذي استهدف اسرائيل، تحطيماً لعتبة الصراع وحدود الردع في الحرب الطويلة بين البلدين، مما قد يُنذر بإخراج الصراع من الظل إلى النور، خاصة أن بنيامين نتنياهو، أكد أنه سيرد على الهجوم الإيراني، بل وسيتخذ خطوات لمهاجمة أهداف داخل إيران، بطريقة محددة بحيث لا تؤدي إلى رد إيراني كبير.

في أسوأ السيناريوهات قد يكون الرد الإسرائيلي مكثفاً، ويشمل قصف مواقع إيرانية مهمة، وفقاً لضابط الاستخبارات الوطنية الأميركية السابق للشرق الأدنى جوناثان بانيكوف، على اعتبار أننا في بداية حقبة جديدة، تكون فيها إيران مستعدة للرد مباشرة على الهجمات الإسرائيلية، وبذلك تخاطر بالانتقام.

بات واضحاً أن الشرق الأوسط هو على حافة حرب لا يريدها أحد، إذ يأمل المسؤولون الأميركيون في أن يكون أي تبادل للرسائل بين إيران وإسرائيل قصيراً وقابلاً للاحتواء، وألا يجذب قوى أخرى، وربطاً بذلك فإن واشنطن تتحرك لتوجيه هذه الأزمة بعيداً مما يمكن أن يكون دورة تصعيد مدمرة، فعلى الجبهة العسكرية، تؤكد كل من الولايات المتحدة وإسرائيل على الدفاعات التي يمكن أن تحيد أي هجوم إيراني، ولكن إذا نجحت إيران أو وكلاؤها في توجيه ضربة كبيرة، فإن ذلك قد يؤدي إلى دوامة هجومية من الصعب ضبطها.

في العمق فإن الهجوم الإيراني في مشهده العام، جاء لإرضاء الجمهور السياسي داخل إيران وخارجها، فإيران وتمهيديها للهجوم، وإعلانها عن إطلاق مئات طائرات الدرون والصواريخ، إنما تدرك بأن الولايات المتحدة وإسرائيل سيتمكنون من التعامل مع الهجوم، وإسقاط معظم الطائرات والصواريخ، ليأتي لاحقاً إعلان طهران إنتهاء الهجوم، في إشارة إلى أن طهران لا تريد مزيداً من العنف، وهذا ما ترجمه المسؤولون الأميركيون الذين رأوا أن الهجوم الإيراني محدود إلى حد ما، وجاء في إطار حفظ ماء الوجه لطهران، ولكن من دون التصعيد إلى حرب إقليمية أكبر.

صفوة القول، إن الوضع المتقلب بين إيران وإسرائيل يجعل من الصعب على أي دولة تحمل خروج الأحداث في الشرق الأوسط عن السيطرة، ووفق كثير من المراقبين والمحللين، يترقب الجميع ما ستسفر عنه الأيام المقبلة، مع احتمال رد تل أبيب على طهران، رغم النصائح الأميركية والتي بُنيت على تقييمات بأن هناك قلقاً بالغاً من أن الرد الإسرائيلي على الهجوم الإيراني سيؤدي إلى حرب إقليمية ذات عواقب كارثية، ومن المهم التنويه إلى ما نقلته شبكة "سي إن إن" الأميركية عن مسؤولين لم تسمهم أن "الرئيس بايدن أبلغ نتنياهو في مكالمتهما الأخيرة بأنه يجب أن يعتبر ليلة الهجوم الإيراني انتصاراً لإسرائيل، نظراً إلى تقييم الولايات المتحدة بأن الهجمات الإيرانية كانت غير ناجحة إلى حد كبير". لكن يبقى أن نقول بأنه وبعد الهجوم الإيراني، فإن الشرق الأوسط سيكون أمام أبواب صراع مفتوح، خاصة إذا قرر الإسرائيليون الرد في العمق الإيراني.