حرب أوكرانيا تعيد خلط أوراق النظام العالمي
باريس - هز الغزو الروسي لأوكرانيا في 24 فبراير/شباط النظام العالمي محدثا اضطرابات جيوسياسية عنيفة انقلب معها الوضع في العالم رأسا على عقب، بينما برزت على وقع حرب كان الروس يعتقدون أنها خاطفة، تكتلات لم تظهر منذ الحرب الباردة، فيما زادت حدّة النزاعات مع اتجاه عالمي أكثر لسياسة محاور تدور كلها في فلك المواجهة بين القوتين العالميتين: الولايات المتحدة والصين.
وتدخل حرب الروسية الأوكرانية عامها الأول بينما بات ينظر لكييف على أنها تخوض هذه الحرب بالوكالة عن القوى الغربية مع تدفق هائل للأسلحة من الولايات المتحدة وأوروبا أكثر من كونها تواجه غزوا يصفه المجتمع الدولي بأنه انتهاك للقوانين والمواثيق الدولية.
وقال جوزيب بوريل منسق السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي في ديسمبر/كانون الأول "لقد تحولنا إلى عالم غير منظم متعدد الأقطاب كل شيء فيه سلاح: الطاقة والبيانات والبنية التحتية والهجرة. الجغرافيا السياسية هي المصطلح الأساسي، كل شيء جيوسياسي".
وتحولت آسيا الوسطى والقوقاز والبلقان وإفريقيا والمحيط الهندي والمحيط الهادئ ساحات معركة على النفوذ بين قوى مثل الصين والاتحاد الأوروبي وروسيا وتركيا سواء من خلال تمويل مشاريع البنية التحتية أو إبرام صفقات في التجارة أو التعاون العسكري أو الدبلوماسي.
وجاءت الحرب في أوكرانيا لتمعن في زعزعة الأمور فأضعفت قبضة روسيا على الجمهوريات السوفييتية السابقة في آسيا الوسطى وفتحت الباب أمام تركيا للاضطلاع بدور جديد كوسيط.
وقال بيار رازو رئيس مركز أبحاث 'اف ام أُاس' في فرنسا إن "إعادة التنظيم الجارية في حالة من الفوضى حقيقية لكنها مؤقتة على الأرجح"، مضيفا "حتما، ستؤدي الحرب في النهاية إلى إضعاف روسيا وأوروبا وإرهاقهما، في حين أن المنتصرَين الرئيسيين من هذا الوضع هما الولايات المتحدة والصين".
وكان على الصين أن تفكر في الحرب من منظور هدفها الاستراتيجي طويل الأمد المتمثل في أن تصبح القوة الرائدة في العالم بحلول عام 2049. وعلى الرغم من أن بكين تدعم موسكو، إلا أنها تجنبت القيام بتحركات قد تنفر الغرب منها.
وقالت أليس إيكمان محللة شؤون آسيا في معهد الاتحاد الأوروبي للدراسات الأمنية، إن "الصين لا تنأى بنفسها، لكنها عززت علاقتها الوثيقة" مع روسيا.
وفي تقريرها السنوي الذي نُشر هذا الشهر، قالت أجهزة الاستخبارات الإستونية إنه "من السابق لأوانه النظر إلى تأييد شي جينبينغ المتحفظ للحرب التي يشنها بوتين كعلامة على الابتعاد عن روسيا".
وقالت إيكمان إن الدعم قد لا يكون توافقا كاملا والصين لا تقدم لروسيا مساعدات بحجم تلك التي توفرها واشنطن لأوكرانيا، لكن "علينا أن ننظر إلى الوقائع: لقد تعززت العلاقات الاقتصادية".
وفي الواقع، تعني الحرب أن موسكو تخاطر بأن تصبح مجرد تابع لبكين وأن تدور في فلكها.
وقالت الخبيرة الاقتصادية وخبيرة العقوبات أغات دوماريه إن "روسيا ليست في وضع يسمح لها بالتفاوض مع الصين التي ستأخذ ما تشاء من روسيا دون أن تعطي موسكو ما تريد" مثل الأسلحة أو المكونات الإلكترونية المهمة.
ومع ذلك، قالت إيكمان "يمكن للأيديولوجيا أن تتقدم على عدم التوازن الاقتصادي ولا ينبغي تحليل العلاقة من منظور عقلاني فحسب".
وقال رازو "الكرملين يراهن على تنويع علاقاته الجيوسياسية والاقتصادية والإستراتيجية مع تركيا والشرق الأوسط وإيران وإفريقيا" للحد من اعتماده على الصين.
كما أن ترسانة روسيا النووية الهائلة وهي أكبر بكثير مما تملكه الصين تجنبها أيضا أن تصبح خاضعة تماما.
وبالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي، تمثل الحرب في الوقت نفسه فرصة لأن يظهر قدرته على التحرك كجهة فاعلة رئيسية، فضلا عن خطر أن يؤدي دور تابع لواشنطن من جديد.
وقال مسؤول أوروبي رفيع المستوى طالبا عدم الكشف عن اسمه "لم يكن أداء أوروبا سيئا جدا، فقد أظهرت مرونتها وقدرتها على الاستجابة بسرعة كبيرة منذ بداية الحرب من خلال تقديم الدعم العسكري ومساعدة اللاجئين وخفض اعتمادها في مجال الطاقة" على روسيا.
وأضاف أن الاتحاد الأوروبي "لبى الاحتياجات العاجلة. هل استعد للمستقبل ومكانته على الخارطة العالمية؟ ما زال أمامه عمل يتعين القيام به".
وقالت الخبيرة الاقتصادية دوماريه إنه "من الواضح أن هناك كتلتين، واحدة أميركية وأخرى صينية مع حلفائها وروسيا، فهل ستصبح أوروبا كتلة ثالثة أم لا، أم ستتحالف مع الأميركيين؟".
وقال رازو إن القادة الأوروبيين من خلال اتحادهم مع واشنطن في الوقت الحالي في دعم كييف، يريدون "تقوية العلاقة مع الولايات المتحدة، لكنهم يدركون أنهم قد يجدون أنفسهم بمفردهم خلال ولاية رئاسية أو اثنتين" إذا وصل مرشح انعزالي إلى البيت الأبيض.
وهناك مزيد من دول الاتحاد الأوروبي الأعضاء في حلف شمال الأطلسي (الناتو) التي ترى أن لا مستقبل خارج المظلة الأمنية للولايات المتحدة والناتو ومن ثم يبحث الاتحاد عن مزيد من المجالات لتقليل التبعيات الإستراتيجية أبعد من الوقود الأحفوري الروسي الذي استغنى عنه إلى حد كبير.
وأدرج إعلان في قمة في فرساي خارج باريس في مارس/اذار 2022 مجالات مثل المواد الخام الرئيسية وأشباه الموصلات والمنتجات الغذائية كأولويات.
وقال برونو تيرتريه من مؤسسة الأبحاث الإستراتيجية (اف اراس) ومقرها فرنسا، إن الأوروبيين يعانون من "المماطلة الإستراتيجية"، فهم يرفضون التحرك إلى أن يجدوا أنفسهم من دون خيار آخر.
ومع ذلك سيتطلع الاتحاد الأوروبي إلى شق طريقه لشغل مقعد في أي مفاوضات تنهي الحرب. وقال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لصحيفة لوموند في ديسمبر/كانون الأول الماضي "لا أريد أن يكون الصينيون أو الأتراك فقط هم الذين يتفاوضون بشأن ما سيحدث لاحقا".
وتوقع الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما في عام 2009 أن "العلاقة بين الولايات المتحدة والصين ستشكل القرن الحادي والعشرين"، مرجحا تحول انتباه واشنطن من العالم الأطلسي إلى المحيط الهادئ.
ويدل الغزو الروسي لأوكرانيا على أن إهمال أوروبا قد لا يكون بتلك السهولة بالنسبة للرئيس الأميركي جو بايدن، وكان نائبا لأوباما.
وقالت الباحثة في جامعة واشنطن جيوفانا دي مايو إن على بايدن أن "يوازن الأمور"، مشيرة إلى "الدعوات المتزايدة لتسوية النزاع في أقرب وقت ممكن"، من جانب السياسيين الأميركيين، فضلا عن تذمر الحزب الجمهوري بشأن تسليم بايدن أسلحة لأوكرانيا.
وقال القائد الأميركي في اليابان جيمس بيرمان لصحيفة فاينانشيال تايمز مؤخرا إنه يمكن استخلاص الكثير من العبر من الحرب بشأن نزاع محتمل مع الصين حول تايوان".
وقال بيرمان "بعد العدوان الروسي في عامي 2014 و2015، استعدينا بجدية لنزاع في المستقبل: تدريب الأوكرانيين والتخزين المسبق للإمدادات وتحديد المواقع التي يمكننا من خلالها تقديم الدعم. نحن نسمي ذلك إعداد المسرح. ونقوم بإعداد المسرح في اليابان في الفيليبين وفي أماكن أخرى".
وبالإضافة إلى إمداد كييف بالأسلحة، سعى حلفاء أوكرانيا بقيادة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إلى خنق الاقتصاد الروسي بفرض عقوبات قاسية.
وتظهر تأثيرات الإجراءات التجارية على نظام التجارة الحرة العالمي الذي كان السائد منذ نهاية الحرب الباردة، على الرغم من أنه كان يعاني.
قال باتريك بويان الرئيس التنفيذي لشركة توتال إنرجي، إن عقوبات مثل فرض مجموعة السبع والاتحاد الأوروبي سقفا على سعر برميل النفط الروسي المصدّر "أنهت السوق العالمية" في ما يتعلق بالوقود الأحفوري.
وسأل "ما الذي ستعنيه فكرة سعر عالمي للنفط بمجرد أن نقرر فرض سقوف، بمجرد أن يتمكن المشتريان الرئيسيان الصين والهند (اللذان لا يطبقان العقوبات) من الشراء من الروس بسعر مختلف؟ هذا شيء جديد حقا وسنختبره في عام 2023".
كما تعمل القوى الكبرى على التخلص من مبادئ التجارة الحرة التي كانت تعتز بها في مجالات أخرى مثل القيود التي تفرضها الولايات المتحدة على مبيعات بعض رقائق الكمبيوتر إلى الصين أو تعليق الهند لصادرات القمح.
وجاءت كل هذه التأثيرات المتعمدة لتضاف إلى الضربة التي وجهتها جائحة كوفيد لسلاسل التوريد العالمية.
وقالت دوماريه "إن ميل العالم إلى الانقسام يعود إلى ما قبل الحرب، لكننا تلقينا صدمة مزدوجة تمثلت في الجائحة ومن ثم الحرب، مما أدى إلى تسارعه".
وكان للحرب تداعيات على تكلفة الغذاء والتدفئة والمأوى وهي ثلاثة من أهم الاحتياجات الأساسية للبشرية في البلدان النامية في إفريقيا وكذلك في أوروبا الغنية.
وقال المنتدى الاقتصادي العالمي في تقريره السنوي عن المخاطر العالمية لعام 2023 إن "أزمة غلاء المعيشة العالمية حاصلة بالفعل"، مشيرا إلى أن الضغوط كانت متصاعدة حتى قبل الجائحة.
وكتب الباحثان نعومي حسين وجيفري هالوك في دراسة لمؤسسة فريدريش إيبرت الألمانية "شهد عام 2022 موجة غير مسبوقة من الاحتجاجات بسبب عدم القدرة على تحمل تكاليف الأساسيات اللازمة للحياة اليومية وعلى توفيرها".
وأضافا أن "في دول عدة، تصاعدت هذه الاحتجاجات إلى أزمات سياسية أكبر على المستوى الوطني تخللتها أعمال عنف وسقوط ضحايا ومطالب بالتغيير السياسي".
لقد عانت دول إفريقيا والشرق الأوسط بشكل خاص لأنها تستورد كميات هائلة من المواد الغذائية وكذلك البلدان الفقيرة في جميع أنحاء العالم.