حسن المودن يتناول القصة المغربية من منظور التحليل النفسي

الناقد المغربي يؤكد أن القصةَ القصيرةَ لم تنل بعدُ في النقد النفسي ما تستحق من الدرس والتحليل.
حضور القصة القصيرة في النقد النفسي محتشماً وقليلا
ماذا عن بورخيس وفرويد؟

   الرباط ـ عن منشورات مقاربات بالمغرب، صدر مؤخراً للناقد المغربي حسن المودن كتابٌ جديد تحت عنوان: "القصة القصيرة والتحليل النفسي". وبالنظر إلى ما تزخر به المكتبة العربية من دراساتٍ نفسيةٍ غير قليلةٍ للشعر وللرواية، تفترضُ هذه الدراسة النقدية أن القصةَ القصيرةَ لم تنل بعدُ في النقد النفسي ما تستحق من الدرس والتحليل؛ والحالُ أن هذا الجنس الأدبي هو الذي اختاره المعلِّـم الثاني جاك لاكان من أجل بناء نظريته في التحليل النفسي. 
وإذا كان للمسرح (سوفوكل، شكسبير..)، وللرواية (دوستويفسكي، يانسن..)، دورٌ كبيرٌ في تأسيس التحليل النفسي مع المعلِّم الأول سيجموند فرويد، فإن القصة القصيرة كان لها دورٌ حاسمٌ في إعادة تأسيس التحليل النفسي على يد جاك لاكان، وليس من دون دلالة أن تتصدر دراستُه التحليليةُ للقصة القصيرة كتابَه: "كتابات". 
ومن هنا السؤال: ما الذي يمكن أن تقوله القصة القصيرة للتحليل النفسي؟ وما الذي يمكن أن يقوله التحليل النفسي للقصة القصيرة؟
   تفترض الدراسة أن القصة القصيرة هي التي ساعدت جاك لاكان على أن يقولَ شيئا جديداً للتحليل النفسي، وأن يقول في الوقت نفسه شيئا جديداً لهذا العلم الجديد الذي فرض نفسه على مختلف العلوم خلال الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي: اللسانيات. والسؤال الأساس هنا هو: ما هو هذا البُـعد في اللغة الذي يصمد أمام المعرفة اللسانية، والذي يفرض علينا التحليلُ النفسيُّ والأدبُ أن نأخذَه بعين الاعتبار؟ ألم يؤسس جاك لاكان، انطلاقا من قصص إدغار آلان بو، " شكلانية مغايرة " للتوجه الشكلاني الذي أسسه مؤسس اللسانيات دو سوسير؟
   وعلى الرغم من هذه المكانة، فإن حضور القصة القصيرة في النقد النفسي، عند نقاد الأدب، وخاصة من العرب، يبقى، في حدود علمي، محتشماً وقليلا مقارنة بما تحظى به الأجناس الأخرى، وخاصة الرواية والشعر. 
وإنْ كان هناك من فضلٍ لهذا الكتاب، فهو بالضبط أن يأتي مكرَّساً للقصة القصيرة مقروءةً من منظور التحليل النفسي، وأن يحاول ما أمكن ذلك الإخلاص للدرس اللاكاني: الأدب قابلٌ لأنْ يقولَ الجديدَ للتحليل النفسي. فالمحللُ النفسيُّ للأدب لم يَعد يتقدَّم باعتباره يملك تلك المعرفة الجاهزة الخاصة التي تفهم في كلِّ شيءٍ، بل إنه يمنح الفرصة للأعمال الأدبية من أجل أن تحاوره، وأن تسائل معرفته النفسانية الجامدة، ذلك لأن الأدب هو الذي بإمكانه، على حدِّ تعبير جاك لاكان، أن يُرسل هواءً جديداً إلى التحليل النفسي، وليس العكس. 
    وانطلاقا من هذا الدرس الذي يقلب الأدوار بدعوته إلى تطبيق الأدب على التحليل النفسي، يُـفتتَـح هذا الكتاب بقراءةٍ في نصوصٍ قصصيةٍ للكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس، وهي قراءةٌ يقودها هذا الافتراض أن هذا الكاتب الشهير كان يعيد قراءة فرويد، ويعيد تقويم المنظور التحليليَّ، وخاصة من خلال نصوصه القصصية. ومن هنا السؤال: ماذا عن بورخيس وفرويد؟ وإذا كان بورخيس يرفض فرويد، أيعني ذلك أنه يرفض التحليل النفسي أم أنه يؤسس تصوراً نفسانيا مغايراً، لا - فرويديا؟ ألم يكن بورخيس، في نصوصه القصصية على الأخص، يعيد قراءة فرويد، يعيد كتابته؟
   وإذا كانت القراءة في قصص بورخيس تستند إلى مبدأ تطبيق الأدب على التحليل النفسي، فإن القراءات الأخرى التي يضمها هذا الكتاب، وموضوعها قصص قصيرة من المغرب المعاصر، تنحو نحو بناء حوارٍ بين التحليل النفسي والكتابة القصصية، أي نحو التناوب وتبادل الأدوار، بحيث يمكن أن يجري تطبيق الأدب على التحليل النفسي، كما يمكن تطبيق التحليل النفسي على الأدب. وبعبارةٍ أخرى، هناك اقترابٌ من قصص بعض الكاتبات المغربيات وبعض الكتاب المغاربة، بواسطة الأسئلة الآتية: ما الذي يمكن أن تقوله القصة القصيرة للتحليل النفسي؟ وما الذي يمكن أن يقوله التحليل النفسي للقصة القصيرة؟ ماذا لو جرى فتحُ حوارٍ بين هذين الاثنين: القصة القصيرة، بوصفها جنسا أدبيا يشهد تطوراتٍ لافتةً في العصر الراهن؛ والتحليل النفسي، الفرويدي بالأخص، الذي كانت الأعمال الأدبية أساسَ تصوراته ومفهوماته..؟
    تفترض هذه الدراسة أن القصة القصيرة قد تقول شيئا جديداً للتحليل النفسي يدفعه إلى إعادة النظر في تصوراته ومفهوماته؛ ولهذا فهي تحاول أن توضح كيف تدعو القصصُ القصيرةُ التحليلاتِ النفسيةَ إلى أن تعيدَ النظرَ في بعض المفهومات (من مثل: عقدة أوديب، الرواية العائلية..)، أو أن تأخذَ بعين الاعتبار مفهوماتٍ جديدةً، ظهرت وتبلورت في النقد الأدبي، بل وفي النقد النفسي المعاصر (التخييل الأوتوبيوغرافي، محكي الانتساب الأدبي..)؛ لكن الدراسة تفترض، في الوقت نفسه، أن التحليل النفسي يمكنه أن يقول شيئا جديداً بخصوص مفهوم الكتابة، وخاصة إذا جرى استثمار مفهوم أساس عند فرويد: "الغرابة المقلقة". وبعبارةٍ أخرى، إذا كان الانطلاق، مثلا، من قصص ربيعة ريحان، فمن أجل السؤال عن إمكانية الحديث عن "رواية عائلية نسائية" لم يمنحها التحليل النفسي ما يكفي من العناية والاهتمام؛ وإذا كان الانطلاق من التحليل النفسي والاستعانة ببعض مفهوماته، فمن أجل توضيح أن محمد زفزاف ليس كاتبا واقعيا، بالمعنى السائد، فهو لا يجعل القارئ سجين واقع اجتماعيٍّ معيش، بل هو يحلق به بعيداً نحو عوالم أخرى، لأنه يأخذ في رواياته وقصصه من عوالم  بلزاك  لكنه يأخذ - في الوقت نفسه  - من عوالم سرفانتيس. 
ومن أجل ملامسة القليل مما يقوله هذا الحوار بين القصة القصيرة والتحليل النفسي، تقترح الدراسة النظر في كل مرة إلى متن قصصيٍّ مزدوج (قصص كاتبٍ / قصص كاتبةٍ)، من خلال سؤالٍ محدَّدٍ، وهو سؤال مزدوج أيضــاً، لأنه يسائل الحكاية والكتابة في الوقت نفسه. وهكذا، هناك اقترابٌ من قصص ربيعة ريحان ومحمد زفزاف من خلال سؤال "الرواية العائلية"؛ وقصص محمد زهير ولطيفة لبصير من خلال سؤال التخييل الأتوبيوغرافي؛ وقصص أنيس الرافعي ولطيفة باقا من خلال سؤال الانتساب الأدبي؛ وقصص محمد غرناط ومليكة مستظرف من خلال سؤال الكتابة والغرابة المقلقة.