حكايتنا الدينية المريضة واسباب خرابنا

هناك تواطؤ غريب بين التنظيمات اليسارية وجماعات الإسلام السياسي.
من سخرية القدر أن الأمر كله أحيل إلى تدين الشعب فيما كانت الخيانة تكمن تحت اللسان
التنظيمات اليسارية أوهمت جماهيرها بأن التسلل للسلطة عبر الجماعات الدينية هو الوسيلة الوحيدة الممكنة

ما حكايتنا العجيبة والفريدة من نوعها مع الدين؟ قي كل العالم يدير سياسيون شؤون الدولة أما في دولنا فإن رجال الدين هم الذين يقومون بتلك المهمة حتى وإن كانوا لا يملكون مناصب رسمية ولا يقفون في الواجهة. معادلة الحلال والحرام تطاردنا وتدخل في تفاصيل طعامنا وثيابنا وطريقة جلوسنا ومشينا وتحيتنا بالرغم من أن الفساد قد جعل من دولنا هياكل منخورة بحيث صار عدد منها تحتل المراتب الأولى في قوائم الدول الأكثر فسادا في العالم.

في جريمة قتل واضحة المعالم تدخل رجال الدين ليفسدوا الرأي القانوني وليحيلوا المسألة كلها إلى ما يشبه السجال في ما هو مسموح وممنوع من ثياب المرأة حسب رأي الفقهاء. لم يكن العنف مرئيا إلا من جهة إدانة الضحية التي لو تُرك أمرها لرجال الدين لما التفت إليها أحد.

سلطة رجال الدين لا تنافسها سلطة أخرى وهو ما يجب إعادة النظر فيه. ولأننا شعوب متناقضة، يكاد التناقض أن يكون هو الصفة الوحيدة التي تجمعنا فإن تلك الإعادة لن تقع. فعلى سبيل المثال يقاوم اليساريون دستور تونس الجديد لأنه يشير إلى مدنية الدولة. أهناك تناقض أكثر وضوحا من ذلك السلوك الذي يكشف ما في أعماقنا من سوء فهم للحياة السياسية الحديثة؟

كل دفاع عن حرية التعبير هو في حقيقته دفاع عما يُسمى بحق جماعات الإسلام الشعبي في تصدر المشهد السياسي، بل وأيضا في الحكم. هناك تواطؤ غريب بين التنظيمات اليسارية وجماعات الإسلام السياسي. يمكننا أن نرى استثناء هنا وهناك غير أنها استثناءات غير مؤثرة.

وكما يبدو فأن التنظيمات اليسارية قد أوهمت جماهيرها بأن التسلل إلى السلطة عن طريق الجماعات الدينية هو الوسيلة الوحيدة الممكنة. من غيرها فإن عليها أن تعتزل الحياة السياسية وتذهب إلى العدم. أما الحديث عن أفيون الشعوب فقد صار نوعا من الفكاهة. كان أحد "علماء الاجتماع العراقيين" قد أكد قبل سنوات أن العرب لم يفهموا مقولة ماركس جيدا وكان ذلك بمثابة تمهيد لتحالف الشيوعيين العراقيين مع التيار السياسي "الرجعي" الذي يقوده مقتدى الصدر.

 قبل انهيار الأنظمة الوطنية العربية في مواجهة رياح الربيع العربي كانت تلك الأنظمة قد حرمت الحديث في السياسة والدين والجنس. كل حديث لا يتطابق مع الرواية الرسمية في تلك المجالات الثلاثة لابد أن يكون سببا لسجن صاحبه أو نفيه أو عزله. لذلك ضاقت مساحة التفكير في الدين ووقعت الشعوب تحت تأثير رجال لا يجيدون سوى نقل الأحاديث السلفية كما كان هو حال الشعراوي في مصر الذي كان نجما تستفتيه الفنانات المعتزلات في لجوئهن إلى الحجاب. 

كان يُقال دائما إن شعب تلك الدولة متدين في تفسير لتمدد التنظيمات الارهابية كما لو أن ذلك الشعب لم يكن متدينا في أوقات سابقة وأنه اكتشف تدينه حين سقطت الدول وأمسكت جماعات الإسلام السياسي بالحكم.

غير أن الحقيقة المؤلمة يُمكن أن تُقرأ من زاوية أخرى.

حين احتل الأميركان العراق وسقط نظام صدام حسين حدث غزو مجاور تمثل في دخول الجماعات الإسلامية، شيعية وسنية منتصرة بعد أن تبنتها سلطة الاحتلال واعتبرتها ركيزة الحكم المحلي الأساسية. لم يمانع الإسلاميون في أن يكونوا خدما للمشروع الإستعماري. لقد قيل يومها إن نظام صدام حسين ما كان في الإمكان إسقاطه إلا عن طريق غزو تقوم به دولة كبرى. تلك طريقة بلهاء في تبرير النفعية السياسية، ولكن السؤال يتعلق بطرفين لا مصلحة لهما في انهيار العراق.

الشعب الذي تغاضى عن كارثة الاحتلال ليبدأ بممارسة طقوسه "الفلكلورية" التي هي ليست من الدين بشيء والمثقفون الذين صاروا يثقلون لغتهم بإيقاع أعجمي ممطوط. 

 كان من سخرية القدر أن الأمر كله قد أحيل إلى تدين الشعب فيما كانت الخيانة تكمن تحت اللسان. لسان المثقفين الذين لم يكونوا في مستوى الصدمة.

وإذا ما عدنا إلى السياسية ونحن لم نفارقها فإن كل حركات المقاومة في العالم العربي هي مشاريع دينية. حزب الله في لبنان، حركة حماس في غزة، الحوثيون في اليمن، الحشد الشعبي في العراق. في جانب الخاسرين هناك جماعة الاخوان المسلمين بمصر وحركة النهضة بتونس تُضاف إليهما بقايا القاعدة في ليبيا.

أليست هي علاقة مريضة بالدين؟