"حماس" والافلاس

كلّ ما على "حماس" عمله هو ان تتذكّر انّ في العالم شيئا آخر غير الصواريخ والسلاح والانفاق حتّى في غياب سلطة وطنية فلسطينية منهمكة حاليا في ترتيب مرحلة ما بعد أبو مازن.

تتصرّف حركتا "حماس" و"الجهاد الإسلامي" في غزة وكأن شيئا لم يحدث منذ نصف قرن زائدا سنة واحدة.

قبل واحد وخمسين عاما كانت هزيمة 1967. بعد مرور كلّ هذا الوقت، هناك من يريد ان يتعلّم وهناك من لا يريد ان يتعلّم. لو ارادت "حماس"، ومعها "الجهاد"، ان تتعلّم شيئا من تجارب الماضي القريب، لكانت تصرفت بطريقة مختلفة من اجل رفع الحصار الظالم عن غزّة. نعم، انّه حصار ظالم مستمر منذ ما يزيد على عشر سنوات. المطلوب كسره اليوم قبل غد بدل توفير كلّ المبررات المطلوبة إسرائيليا لاستمراره.

قبل كلّ شيء، لن تساعد "سفينة الحرّية" التي انطلقت من غزّة في اتجاه قبرص وعليها مرضى وطلاب يريدون الالتحاق بجامعاتهم في فكّ الحصار. لا يفكّ الحصار سوى عودة الى المنطق. يقول المنطق انّ اطلاق الصواريخ من غزّة في اتجاه إسرائيل لا يخدم سوى بنيامين نتانياهو، مثلما ان ذلك خدم في الماضي ارييل شارون الذي قرّر صيف العام 2005 الانسحاب من كلّ غزّة بغية الإمساك بطريقة افضل بالضفّة الغربية والقدس الشرقية تحديدا. هذا ما اكّده دوف فايسغلاس في حديث طويل نشرته صحيفة "هآرتس" يشرح فيه الأسباب التي دفعت شارون الى اتخاذ قرار بالانسحاب من كلّ غزّة وتفكيك المستوطنات الإسرائيلية المقامة في القطاع. كان فايسغلاس، وهو محام، مديرا لمكتب شارون، رئيس الوزراء الإسرائيلي وقتذاك. قال بكلّ وضوح ان الهدف من الانسحاب من غزّة هو التفرّغ للضفّة الغربية وتكريس الاحتلال للجزء الأكبر منها في وقت كان معروفا تماما انّ إسرائيل غير معنيّة اصلا باحتلال غزّة وكانت مستعدة في كلّ وقت للانسحاب منها وتركها فريسة للبؤس.

من بين اهمّ ما حقّقه ياسر عرفات عندما وفّر الغطاء المطلوب لاتفاق أوسلو في العام 1993، الإصرار على صيغة "غزّة واريحا اوّلا"، أي على الّا تقتصر بداية الانسحاب الإسرائيلي على القطاع، بل على ان يكون هناك أيضا انسحاب من ارض في الضفّة الغربية في الوقت ذاته. كان هناك إصرار لدى "أبو عمّار" على الربط بين الضفّة الغربية وغزّة. كلّ ما فعلته "حماس" منذ استيلائها على غزّة يتمثّل في تنفيذ ما تريده إسرائيل التي تمنّت دائما ان يأخذ البحر غزّة ويبتلعها بمن فيها. ليس الحصار الذي شجعت عليه "حماس" في مرحلة معيّنة سوى ترجمة لهذا التفكير الإسرائيلي.

الأكيد ان فكّ الحصار عن غزّة لا يكون بالتصعيد، خصوصا باطلاق الصواريخ. هناك واقع لا مفرّ من الاعتراف به. يتمثّل هذا الواقع في ان "حماس" وقعت في الفخّ الإسرائيلي عندما وفّرت كل التبريرات كي يقف العالم متفرّجا على مأساة غزّة. تريد "حماس" تحويل غزّة قاعدة لتحرير فلسطين من البحر الى النهر او من النهر الى البحر، لا فارق. في الواقع، صارت "حماس" تريد اليوم، كما ارادت في السنوات القليلة الماضية، التوصّل الى هدنة طويلة المدى مع إسرائيل تثبت من خلالها شرعيتها كطرف مسؤول عن إدارة القطاع الذي حوّلته الى "امارة إسلامية" على الطريقة الطالبانية، نسبة الى طالبان. في مقابل الهدنة، تريد "حماس" في ضوء فشل مشروعها، خصوصا بعد التغيير الكبير الذي حصل في مصر عام 2013، فكّ الحصار عن القطاع. هل هذه معادلة قابلة للحياة؟ هل سلاحها يردع إسرائيل ويقيم توازنا معها يسمح بالتفاوض في شأن الهدنة الطويلة؟

صحيح ان إسرائيل ستحصل، بفضل الهدنة الطويلة، على جزء مما تريد، أي على تكريس الانفصال بين الضفّة الغربية وغزّة، لكن الصحيح أيضا ان ليس ما يضمن خلال الهدنة التي تطمح "حماس" اليها عدم وصول مزيد من الصواريخ الأكثر تطوّرا الى القطاع. اضف الى ذلك، ان "حركة الجهاد الإسلامي" التي شاركت في جولة الصواريخ الأخيرة التي اطلقت في اتجاه الأراضي الإسرائيلية مرتبطة عضويا بايران. قرارها إيراني مئة في المئة في حين ان النفوذ الايراني داخل "حماس" موسمي ويعتمد على حسابات من نوع آخر اكثر تعقيدا. باختصار شديد، لا يسمح ميزان القوى القائم بالوصول الى هدنة طويلة. هذا يعني ان هناك خطأ أساسيا تقوم عليه كلّ حسابات "حماس" التي لم تتعلّم شيئا من مدرسة الواقع، بل ما زالت تعيش في ظلّ أوهام الأفكار التي يروّج لها الاخوان المسلمون التي هي جزء لا يتجزّأ منهم.

يفترض في "حماس" البحث عن طريقة أخرى لإخراج غزّة من الحصار الذي لم يعد يناسبها كما كانت عليه الحال في الماضي. لم يعد هذا الحصار، الذي غيّر طبيعة المجتمع الغزّاوي، يفيدها في هذه المرحلة في ظلّ الوضع الاجتماعي الذي يهدّد بانفجار داخلي وفي ظلّ حاجتها الى بقاء قنوات الاتصال مفتوحة مع مصر. لم يعد في استطاعة "حماس" تحويل غزّة قاعدة خلفية للاخوان المسلمين في مصر، كما كانت عليه الحال قبل سنوات.

ليس مطلوبا من "حماس"، في حال كانت تريد بالفعل فكّ الحصار عن غزّة، الاستسلام لإسرائيل. كلّ ما عليها عمله هو ان تتذكّر انّ في العالم شيئا آخر غير الصواريخ والسلاح والانفاق حتّى في غياب سلطة وطنية فلسطينية منهمكة حاليا في ترتيب مرحلة ما بعد "أبو مازن". وهذا ما كشفه الاجتماع الذي عقده أخيرا في واشنطن مدير الاستخبارات الفلسطينية في الضفة الغربية ماجد فرج مع وزير الخارجية الاميركية مايك بومبيو الذي كان قبل ذلك مديرا لوكالة الاستخبارات المركزية الاميركية (سي. آي. إي).

هناك طريق للعودة الى المنطق والواقعية الذي يعني اوّل ما يعني انّ الشعارات التي رفعتها "حماس" والتي ترفعها معها "الجهاد الإسلامي" تجلب البؤس ولا تطعم الغزاويين خبزا. يكفي ان تتذكر "حماس" انّها تستطيع إعادة عقارب الساعة الى خلف، أي الى الايّام التي كان فيها مطار غزّة يعمل، الى الايام التي زار فيها الرئيس كلينتون القطاع في العام 1998 وقصّ بنفسه الشريط إيذانا بتدشين المدرج الأساسي لمطار غزّة. كان ذلك قبل عشرين عاما فقط. لم يكن هناك حصار. كانت هناك رغبة دولية في مساعدة القطاع.

هناك كلمة واحدة تختزل ما فعلته "حماس" في غزّة. الكلمة هي الإفلاس. لا خروج من الإفلاس باعتماد سياسة الهرب الى امام، أي الى حرب جديدة مع إسرائيل خاسرة سلفا. الخروج من الإفلاس يعني اول ما يعني الابتعاد عن المكابرة والاعتراف بالفشل وتوفير مزيد من العذابات على الشعب الفلسطيني. لا يزال هناك فلسطينيون، هدم القصف الإسرائيلي بيوتهم، يقيمون في العراء منذ حرب أواخر العام 2008. كيف يمكن لـ"حماس" الاقتناع بان سلاحها وصواريخها تصبّ في خدمة إسرائيل وتجويع الشعب الفلسطيني وان عليها ان تتنحى وتترك شؤون القطاع لغيرها، بالتنسيق مع مصر طبعا، في انتظار إعادة تشكيل السلطة الوطنية الفلسطينية. هل من مخرج آخر لفكّ الحصار بدل بقاء "حماس" في اسر الفكر الاخواني الذي تدّعي انّها تخلصت منه قبل عام لكنّه لا يزال في الواقع يتحكّم بكلّ سلوكها؟