خلفيات تبدل المزاج الانتخابي الأوروبي

يجد الأوروبيون أنفسهم أمام امتحان الثبات على الوسطية أو الذهاب إلى اليمين المتطرف أو اليسار.

تتأثر الشعوب والمجتمعات بما يدور حولها من وقائع وتحولات، بخاصة تلك المجتمعات التي تحاول ان تلعب دورا إقليميا او دوليا، ومن بينها الاتحاد الأوروبي ودوله التي عانت ما عانته للوصول الى أوضاع مقررة ولو بنسب على الصعيدين الإقليمي والدولي.

تعتبر المجتمعات الأوروبية من بين أكثر المجتمعات تبدلا وتغيرا في المزاج السياسي والاجتماعي وبالتالي الانتخابي التي لها الدور الأساس في تركيبة السلطات القارية والوطنية، بالنظر للتأثر المتبادل في الكثير من الاحيان بين المستويين.

فأوروبا التي اطلقت مسيرة الوحدة عبر معاهدة ماسترخت بداية تسعينات القرن الماضي، فسرعان ما عاد ظهور اليمين المتطرف في العديد من الدول الوازنة كالنمسا وألمانيا وايطاليا، وسميت آنذاك ظهور النازيين الجدد، وتكرس هذا المزاج مع العديد من المحطات الانتخابية الأخرى على صعيد المؤسسات الاتحادية والوطنية، فكان لأحداث سبتمبر/أيلول 2001 الآثار الواضحة لتكريس نزعات التطرف، بالنظر للخلفيات التي أثيرت حول الحدث العالمي آنذاك، والذي اسند لبعض المنظمات الإسلامية وشعوبها مسؤولية الفعل، ما انشأ تبدلا دراماتيكيا قويا في المزاج الأوروبي، حيث تابعت الأحزاب والحركات الشعبوية صعودها وتكريس أدوارها في غير موقع اتحادي ووطني.

والملاحظ بشكل واضح، تأثر المزاج الشعبي وبالتالي الحزبي في العديد من القضايا الوطنية الداخلية وبنسب عالية أيضا بالقضايا ذات الطابع القاري الأوروبي او غيره، بحيث ترافقت نتائج الانتخابات مع الاحداث والقضايا المؤثرة، وبالتالي ظهور مزيد من الحراك السياسي والمواقف التي اعتبرت متطرفة وغريبة بعض الشيء عن السلوك الأوروبي بشكل عام.

وقد شكلت موجة الانفصال عن الاتحاد الأوروبي مناسبة مهمة للتغير الحاصل في الانتخابات الوطنية والاتحادية، وكانت بمثابة الاستفتاء الحاد في المزاج الشعبي الأوروبي، وكان أبرزها بريطانيا التي شهدت خروجا مدويا تأثر به العديد من المجتمعات في الدول الأوروبية الأخرى وان لم تتمكن عن الانفصال، كبعض القضايا مثال كتالونيا في اسبانيا على سبيل المثال لا الحصر، ما يدلل على سرعة انتشار وتأثر المجتمعات الأوروبية بالمسائل ذات الطابع الوحدوي.

كما شكلت القضايا الأمنية والعسكرية جزءا رئيسا من تلك التوجهات العامة في السلوك الأوروبي، مثال المظلة الأمنية الأطلسية وتداعياتها على الملفات الاوروبية الأميركية والأوروبية الروسية، ما أدى الى ما اعتبرته موسكو تحديا وجوديا لأمنها القومي، والذي استتبع بتفجر الأزمة الأوكرانية واتخاذها مناح دولية قاسية، قسّمت العالم الى معسكرات متصارعة، على قاعدة إعادة فرز وتركيب لما سميَّ يقظة بعض القوميات الأوروبية، وبخاصة ما يتصل بأوكرانيا، وهي قضية أوروبية مركزية بأبعاد دولية ملتهبة.

وربما القضية الأكثر تأثيرا في المزاج الشعبي الأوروبي، هي قضية النازحين واللاجئين غير الشرعيين الذين تدفقوا الى دول الاتحاد وبشكل غير مسبوق في العقود الثلاثة الماضية، حيث شكلت القضية الأبرز التي قامت عليها برامج الأحزاب وبرامجها الانتخابية الوطنية والقارية.

وفي واقع الامر تعتبر قضية الهجرة الى القارة العجوز القضية الأكثر اثارة وشعبية في المزاج والسلوك المجتمعي الأوروبي في مختلف دوله، حيث ظهور التذمر وعدم الرضا عن واقع اللاجئين الذين يعتبرون شرائح اجتماعية غير مرغوب بها في مختلف المجتمعات، بحيث بدت المعاملة والنظرة العنصرية واضحة بشكل جلي، وهي ميزة كانت غائبة عن المجتمعات الأوروبية لعقود طويلة، لكنها سرعان ما انتشرت بشكل ملفت وقاس، وهي ظروف مفهومة ومعتاد عليها في كل المجتمعات التي يشكل فيها اللاجئون اعدادا ضاغطة في المجتمعات المستقبلة.

فبين 6 و9 يونيو/حزيران 2024، صوّت ما يقرب من 400 مليون شخص في انتخابات البرلمان الأوروبي لانتخاب 720 عضواً في البرلمان. ويمكن القول إن الانتخابات الأخيرة للبرلمان الأوروبي الذي يتألف من ممثلين منتخبين عن مواطني الاتحاد الأوروبي والذين ينقسمون بدورهم إلى كتل سياسية بناءً على الانتماء السياسي، قد غيرت المشهد السياسي في الاتحاد الأوروبي، ما أدى إلى تحوله نحو اليمين بشكل واضح. فكان المحافظون الأوروبيون حزب الشعب الأوروبي، هم الفائزون الواضحون في هذه الانتخابات بـ189 مقعدا، بينما تمكن الاشتراكيون والديمقراطيون واليسار إلى حد كبير، من الحفاظ على مواقعهم بـ135 مقعدا و39 مقعدا على التوالي. في حين كان الخاسرون هم الخضر والليبراليون، الذين فقدوا أكثر من 40 مقعداً في البرلمان، بينما حققت الكتل الشعبوية اليمينية أي المحافظون والإصلاحيون الأوروبيون واليمينية المتطرفة الهوية والديمقراطية مكاسب كبيرة بين 76 و58 مقعدا على التوالي بزيادة 7 و9 مقاعد عن الانتخابات الماضية.

وعلى الرغم من تحقيق أحزاب اليمين المتطرف والأحزاب القومية مكاسب واضحة، كان أداء يمين الوسط جيداً أيضاً، حيث احتفظ بمكانته كأكبر تجمع وضمن الحصول على مقاعد، وحلت أحزاب يمين الوسط في المقدمة في ألمانيا واليونان وبولندا وإسبانيا، كما حققت تقدماً كبيراً في المجر.

أما المفارقتان الأهم، فجاءت في ألمانيا وفرنسا. ففي ألمانيا، منيًّ الحزب الديمقراطي الاشتراكي للمستشار الألماني اولاف شولتز والتحالف الحاكم بهزيمة على يد الاتحاد الديمقراطي المسيحي من يمين الوسط الذي تصدر القائمة بنسبة 30%، وحزب البديل من أجل ألمانيا اليميني المتطرف الذي حل ثانياً بنسبة 15.9%.

لكن الحدث الأبرز في هذه الانتخابات هو تصويت أكثر من ثلث الناخبين الفرنسيين لصالح حزب يميني متطرف، حيث احتل حزب التجمع الوطني المركز الأول بنسبة 31.37%. ومن هنا، أعلن الرئيس إيمانويل ماكرون، الذي تعرض حزبه الوسطي النهضة وحلفاؤه لهزيمة ثقيلة بنسبة 14.6%، حل البرلمان وإجراء انتخابات برلمانية جديدة، على جولتين في 30 يونيو و7 يوليو 2024.

لكن المفارقة أيضا أتت في الانتخابات الفرنسية في الدورة الثانية، حيث لم يحقق اليمين المتطرف النتائج المتوقعة كما حصدها في الدورة الأولى، حيث حل ثالثا بعد حزب الرئيس ماكرون واليسار، اذ تصدر تحالف اليسار عبر الجبهة الشعبية الجديدة بحصوله على 182 مقعدا، أما المعسكر الرئاسي فقد حصل على 168 مقعدا، بينما حصل التجمع الوطني أقصى اليمين وحلفاؤه على 143 مقعدا. وأيضا ما أتت به نتائج الانتخابات البريطانية حيث فاز حزب العمال 411 مقعدا مقابل 120 مقعدا للمحافظين وهي هزيمة تاريخية لم تحصل منذ اكثر من قرن من الزمن، انه عصر التبدلات والمفاجآـت.