خيار حماس الأخير

صادرت "حماس" القرار الفلسطيني، ووضعت مفاتيحه بيد أطراف إقليمية أجادت اللعب بالورقة الفلسطينية في سياساتها التي أربكت أمن الشرق الأوسط وأسقطت سيادة دول عربية كانت إسرائيل تخطط لإسقاطها من قبل.

ارتماء "حماس" في الحضن الإيراني أخرج المقاومة الفلسطينية من مسار صدق نضالها الوطني، وشوه النهج التحرري في بلوغ الهدف الأكبر باسترداد الحق الفلسطيني المسلوب، وحولها إلى مجرد ذراع من الأذرع التي يحركها الحرس الثوري الفارسي العابث بأمن الشرق الأوسط عبر إثارة الفتن الطائفية وتغذية الصراعات الداخلية تنفيذا لمخططها التوسعي المفضوح.

قوة المقاومة تترسخ في التمسك بهويتها الوطنية وحفاظها على صدقية القرار الوطني المستقل. وعند فقدان الهوية ومصادرة القرار لصالح الحاضنة الخارجية تنقلب المقاومة إلى "مقاولة" تخضع لشروط العرض والطلب في استغلال القضية وتوظيفها من أجل مكاسب آنية حسب متطلبات الظرف السياسي الراهن دوليا وإقليميا ليس إلا.

"حماس" باتت تنتعش في لعبة الحاضنات، حتى أضحى من الصعب عليها استعادة هويتها الوطنية والذهاب إلى أحقية القرار الفلسطيني الموحد، فهي فقدت وحدة كيانها المشتت في حاضنة إيرانية يمثلها المكتب السياسي المفتوح في العاصمة القطرية الدوحة بقيادة إسماعيل هنية وفصيل مسلح يرعاه حزب الله في جنوب لبنان وحاضنة تركية يمثلها مكتب "حماس" الخارجي في أنقرة بقيادة خالد مشعل، في حين تتولى قيادة "حماس-الداخل" في غزة مسؤولية وحدة الموقف باستثمار ريع هذه الحاضنات الإقليمية والقبول بإملاءاتها في إشعال الحرب مع إسرائيل أو التزام الهدنة كورقة ضغط أو مهادنة مع القوى الكبرى.

واقع "حماس" الجيوسياسي جعلها في عزلة دائمة عربيا ودوليا، فهي لا تعترف بأحد ولا أحد يعترف بها في قطاع غزة المعزول سوى أنقرة التي تعترف بالنصف الموالي لها، وطهران التي تعترف بالنصف الآخر الموالي لها، حتى أضحت بلا مرجع شرعي وطني يدعم قبولها داخليا وخارجيا ويعترف بوجودها كحركة مقاومة للاحتلال الإسرائيلي.

"حماس" صادرت القرار الفلسطيني، ووضعت مفاتيحه بيد أطراف إقليمية أجادت اللعب بالورقة الفلسطينية في سياساتها التي أربكت أمن الشرق الأوسط وأسقطت سيادة دول عربية كانت إسرائيل تخطط لإسقاطها من قبل.

"حماس" فرضت على نفسها العزلة وعزلت معها الشعب الفلسطيني في غزة قبل أن يفرض العالم هذه العزلة المطبقة بحزام إسرائيلي خانق.

عملية "طوفان الأقصى" نذرت فعلها المقاوم في مشهده المثير لتقلب أوراق الشرق الأوسط فوق انقلابها استجابة لإرادة حاضنتها الإيرانية الطامعة في امتلاك مفاتيح القضية الفلسطينية وتوظيفها توظيفا خبيثا في تحقيق مآربها المعلن عنها وغير المعلن.

خسرت إيران ورقة فلسطين، وتخلت عنها أمام هول الكارثة، ونأت بنفسها خوفا من رد أميركي يقض مضجع "ولاية الفقيه" وهو يرى البوارج وحاملات الطائرات تقترب من شواطئه مكتفيا بذرف دموع التماسيح على إبادة شعب غزة المنكوب، والسماح لأذرعه بقرصنة سفن تجارية وإطلاق صواريخ لا تصل إلى أهدافها.

وخسرت "حماس" غزة، وربما تخسر وجودها كاملا، وسيخسر لبنان شريطه الحدودي مع فلسطين المحتلة، وسيبتعد حزب الله مرغما عن مواقعه مخليا الأرض لسلامة "أمن إسرائيل"، وسيواجه الحوثي تحالفا دوليا يكبح جماحه في البحر الأحمر، وستفقد الميليشيات الطائفية في العراق دورها التخريبي، بعد إغلاق بوابات تواصلها مع قواعد نفوذ الحرس الثوري الإيراني في سوريا الملتزمة بـ "واقعية الصمت" المذل إزاء العدوان الإسرائيلي المستمر.

خيار أخير أمام "حماس" هو التطهر من دنس الحاضنات الإقليمية والامتناع عن لعب دور "المقاول" لصالح تنفيذ مشاريعها التوسعية على حساب قضية الشعب الفلسطيني وسلامة الأمن القومي العربي، وإعلان الإقرار بشرعية منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني وتجسيد الالتزام بوحدة الصف الوطني وسيادة قراره المستقل في مسيرة العمل على إقامة دولة فلسطين القابلة للحياة وعاصمتها القدس الشريف.