"دار العشاق" رواية توضح الآليات التي يصنع بها الحاكم سطوته وجبروته 

ناصر عراق يستلهم فترة تاريخية مهمة في تاريخ مصر الحديث وهي الفترة التي بدأت بالحملة الفرنسية وثورات القاهرة وتولى محمد علي دفة الحكم.
الروائي الناجح يجب أن يمتلك وجهة نظرة عامة في الحياة
ثورة يناير 2011 أثارت بحرًا من الأسئلة في عقول الملايين

يسعى الروائي ناصر عراق في روايته "دار العشاق" أن يعالج قضية جوهرية في تاريخ المصريين في علاقتهم بالسلطة والحاكم، وذلك من خلال استلهام فترة تاريخية مهمة في تاريخ مصر الحديث وهي تلك الفترة التي بدأت بالحملة الفرنسية على مصر وثورات القاهرة وتولى محمد علي الحكم بإرادة شعبية وذلك من خلال أسرة بوغوص بك الذي كان للشؤون الأفرنجية في عهد محمد علي، ومطلعا على الكثير من مجريات الأمور السياسية في الدولة فضلا عن احتكاكه بمختلف أوساط المصرية.
الرواية التي تعد التاسعة لعراق صدرت حديثا عن الدار المصرية اللبنانية، ويذكر أن عراق تخرج في كلية الفنون الجميلة بالزمالك عام 1984، وحصل على جائزة (كتارا) الكبرى في الرواية العربية - الدورة الثانية 2016 عن روايته "الأزبكية"، كما وصلت روايته "العاطل" إلى القائمة القصيرة في جائزة البوكر العربية - الدورة الخامسة 2012. كما فاز كتابه "تاريخ الرسم الصحفي في مصر" على جائزة أفضل كتاب في جائزة أحمد بهاء الدين - الدورة الأولى عام 2000، ومن أهم رواياته "أزمنة من غبار"، و"من فرط الغرام"، و"نساء القاهرة دبي"، و"تاج الهدهد" و"الكومبارس". 
كما أسهم ناصر عراق في تأسيس مجلة "دبي الثقافية" بالإمارات عام 2002، وكان أول مدير تحرير لها لمدة 8 سنوات حتى 2010، حيث أصدر 57 عددا، وأشرف على إصدار 33 كتابا من سلسلة كتاب "دبي الثقافية".
بداية وحول استلهام الرواية للتاريخ ومدى الاستفادة من الوقائع والأحداث الحقيقية في عصر محمد علي يقول ناصر عراق: "في ظني أن التاريخ بستان واسع جدًا يستطيع الروائي الموهوب أن يقطف منه ما شاء من زهور وثمار ليعيد صياغته - أي التاريخ - وفق منظومة جديدة تعزز أفكاره ورؤاه، فالروائي الناجح يجب أن يمتلك وجهة نظرة عامة في الحياة، فلا يمكن أن يتصدى أحد لكتابة رواية جميلة وممتعة ومثيرة للأسئلة دون أن يكون متكئا على جدار صلب من المعرفة العميقة بمجالات الحياة المختلفة من جهة، ودون أن يؤسس لنفسه فلسفة عامة حول الكون الذي نعيش فيه من جهة أخرى. من هنا يمكن اعتبار التاريخ مادة ثرية يصح أن يقبل عليها الروائي بهمة، ليستلهم منها ما يخدم مشروعه الروائي الذي ينبغي أن يكون موجهًا للحاضر والمستقبل، فمعرفة الماضي وإعادة قراءته روائيا من الأمور التي تسمح للمؤلف أن يقول وجهة نظره في الحاضر وربما المستقبل.
ويشير عراق إلى أن أحد أكبر مشكلاتنا الحالية في مصر؛ وتتمثل في أننا لم نحسم بعد الأسئلة الجوهرية الكبرى التي طرحت علينا، ومازالت، منذ قدوم نابليون بونابرته بحملته العسكرية إلى مصر عام 1798، ومن أهم هذه الأسئلة: كيف تتكون السلطة؟ وما السر في استمرار الحاكم رغم بطشه وديكتاتوريته؟ وما طبيعة العلاقة التي تتشكل بين حاكم مصر والقوى الكبرى؟ وما الذي يجعل المصريون يصبرون على استبداد حاكم وبطشه سنوات طويلة؟ وكيف نصوغ علاقتنا بالغرب المتقدم عنا علميًا واقتصاديًا وعسكريًا؟ هذه الأسئلة وغيرها مطروحة على العقل المصري منذ محمد علي وحتى الآن لم نصل إلى إجابات مرضية وناجعة، فهناك من يهلل للحاكم حتى لو استبد وأخطأ، وهناك من يلعن الغرب بوصفه مجموعة من الكفار يجب مقاطعتهم إن لم يكن محاربتهم، وهكذا.

ويؤكد عراق أنه استفاد عندما كتب "دار العشاق" من بعض الأحداث والمعلومات التاريخية التي وقعت في زمن محمد علي، لكنها كانت معلومات قليلة للغاية، ويقول: إنني لست مؤرخا، وإنما أحاول تشييد معمار روائي متين وممتع يطرح الأسئلة المهمة التي لا يعاني منها العقل المصري فحسب، وإنما العقل العربي أيضا، فمثلا هناك شخصية حقيقية لرجل يدعى بوغوص بك، وهو أرمني عمل ناظرًا، أي وزيرًا، للشؤون الإفرنجية مع محمد علي، والمعلومات عن هذا الرجل قليلة جدًا جدًا، ومع ذلك جعلت منه أحد أبطال الرواية الرئيسيين، إذ تخيلت له حياة كاملة، فأسكنته في منطقة الأزبكية وجعلت له زوجة تحبه، وتماديت في رسم صورة شاملة لعلاقاته مع محمد علي وأبنائه وقناصل الدول الأجنبية وموقفه من المصريين إلى  آخره. 
هناك أيضا شخصية (طوسون) الابن الأصغر لمحمد علي، والمعلومات عنه شحيحة جدا جدا، ومع ذلك حاولت تخليق حياة كاملة للشاب وعلاقاته الرسمبة والغرامية، وهكذا. 
ويلفت عراق إلى أنه يجب ألا ننسى أن التاريخ يحتشد بمواقف ووقائع تثير شهية الكاتب أحيانا، وأن الإنسان هو الإنسان سواء في الماضي أو الحاضر، بمعنى استعداد الإنسان في أي زمان لخوض الصراعات العنيفة من أجل الوصول إلى السلطة أو الاستحواذ على المال، وأن الحب بين الرجل والمرأة في الماضي مازال يؤجج المشاعر في الحاضر، إذن... التاريخ في "دار العشاق" ليس تاريخًا بالمعنى المعتاد، وإنما أناقش قضايا الحاضر المشتعلة على إيقاع موسيقى التاريخ، فضلا عن أن تقديم قراءة مغايرة لكل ما هو مستقر (تاريخيًا) أمر يثير شهية القارئ الحصيف، وأتعشم ان أكون قد نجحت في ذلك.
وحول علاقة الرواية بالثورتين اللتين قامتا في مصر "25 يناير و30 يونيو"، يرى عراق أن ثورة يناير 2011، أثارت بحرًا من الأسئلة في عقول الملايين بعامة، وأصحاب الرأي والمبدعين بخاصة، لأنها ثورة غير مسبوقة من حيث الحشود الهائلة التي شاركت فيها وأسقطت حكم مبارك، كما أن الأحلام "الوردية" التي رافقت الناس في أثناء الثورة سرعان ما تبددت تحت وطأة النبرة الإخوانية الخبيثة، الأمر الذي جعل الناس يتساءلون في حيرة وغضب وقلق: لماذا أخفقت ثورة يناير؟ وكيف وثبت جماعة دينية تخاصم العصر إلى السلطة؟ وأذكر أنني كتبت مقالا عندما جرت الانتخابات بين أحمد شفيق ومحمد مرسي قلت فيه: إن اختيار شفيق إهانة لثورة يناير وشهدائها، باعتباره آخر رئيس وزراء في عصر المبارك، أما اختيار محمد مرسي فإهانة للحضارة الإنسانية كلها. 
وقد حاولت في روايتي "الأزبكية" التي صدرت عام 2015 أن أناقش مفهوم الوطن في ظل تشويش كبير أحدثته جماعة الإخوان في عقول الشباب، الأمر الذي يؤكد دور الثورات في شحذ همم الكتاب لما تحدثه من زلازل في الوعي الجمعي للملايين. 
أما "دار العشاق" فتسعى لفهم الآليات التي يصنع بها الحاكم سطوته وجبروته، ورغم ما يقال ويشاع إن محمد علي هو مؤسس مصر الحديثة، فإنه لم يحقق ذلك إلا على جماجم المصريين، فقد شهدت فترة حكمه الطويلة (1805/ 1842) العديد من المصائب التي انهمرت على رؤوس الناس من قتل وتعذيب وسخرة وغلاء واستبداد إلى آخره. لذا حاولت أن أوضح الجوانب الأخرى في زمن محمد علي خاصة في بدايات حكمه عندما تخلص من المماليك ونفى المعارض الشعبي القوي عمر مكرم إلى دمياط، واستبد بالحكم وأصبح أول حاكم مصري يملك مصر كلها بالقانون، فالأرض الزراعية كلها صارت في حوزته، وكذلك احتكر التجارة، وهو أمر لم يحدث حسب علمي منذ زمن الفراعنة.
أما عن دلالة بدء الرواية بمذبحة القلعة، وهل هي إسقاط على ما جرى للإخوان المسلمين، فنفى عراق أن يكون قصد لذلك، وقال "حاولت توضيح أن الهوس بالوصول إلى السلطة والانفراد بها يؤدي بصاحبه إلى أن يتمادى في القتل بصورة مخيفة، كما أنني حاولت أن أتخيل طبيعة الجهاز النفسي لمحمد علي بعد أن قتل نحو 400 شخص من المماليك في ساعتين؟ كيف ينام؟ كيف تحمل صراخهم الأخير؟ كيف تعامل ابناه إبراهيم باشا وطوسون باشا مع هذه المذبحة التي أمر أبوهما بارتكابها؟ فكتب التاريخ لم تذكر لنا الحالة النفسية لمحمد علي عقب التخلص من المماليك بهذه الوحشية، وأتخيل أن أحد مهام الروائي أن يفتش في المسكوت عنه ويقدم له رؤية جديدة تثير خيال القارئ وتمنحه مساحة جديدة لإعادة قراءة التاريخ بنظرة مختلفة.
وتحتفي الرواية بحضور قوي لشخصية الرسام الفرنسي الخواجة شارل، وقد علّل عراق ذلك قائلا "يجب أن نعلم أن الغرب ليس كله شرًا، وليس كله استعمارًا ونهبًا للشعوب الأقل تطورًا، وإنما هناك أناس من الغرب يتمتعون بإنسانية عالية، فأوروبا قادت العالم فكريًا وعلميًا وفنيًا وقانونيًا بداية من عصر النهضة، ووهبت البشرية كوكبة معتبرة من العباقرة في المجالات كافة، هؤلاء العباقرة كثير منهم يتمتع بحس إنساني عال فيما أزعم، وبخاصة الفنانون، لذا حاولت أن أجعل من الرسام الفرنسي الخواجة شارل المقيم في مصر رمزا لأجمل ما في الغرب، في الوقت الذي ظهر فيه قناصل الدول الأوربية تسعى جاهدة لفرض نفوذها وسيطرتها على مصر من أجل نهب خيراتها بأبخس الأثمان. 

هناك أناس من الغرب يتمتعون بإنسانية عالية
لم أقع في فخ التضاد الساذج

ومع ذلك لم أقع في فخ التضاد الساذج، فشارل نموذج للخير والقنصل الفرنسي أو الإنجليزي نموذج للشر، لا، وإنما أظهرت نقاط الضعف التي تعتري شارل أيضا، وكيف أنه ليس ملاكا قادمًا من الغرب، بل إنسان تجري دماء الخير في شرايينه بشكل أيسر وأكثر كثافة من دماء الشر".
ويرى عراق أن استخدامه لللغة العربية الفصحى في رواياته وخاصة "دار العشاق" قضية بالغة الأهمية، فهي وعاء لحمل الأفكار وتوصيل المعاني، كما أنها وسيلة للإمتاع وإثارة الخيال وطرح الأسئلة وإشباع الروح. لذا أعتقد أن من يتصدى للكتابة بشكل عام والرواية بشكل خاص عليه أن يعتصم بحبل اللغة العربية الفصحى، فيعرف قواعدها ونحوها، ويعزز قاموسه اللغوي بالاستزادة من المفردات والكلمات، كما عليه أن يسعى جاهدًا إلى ابتكار تراكيب لغوية جديدة وصياغات غير مكرورة حتى يتمكن من بناء أسلوب خاص به، فالرجل هو الأسلوب كما قالوا. وكما أن النجار لا يمكن أن يصنع لنا منضدة أو مقعدًا متينا وجميلا، دون أن يتقن استخدام المنشار والشاكوش والمسامير، فالروائي لا يستطيع أن ينشئ لنا رواية فاتنة وآسرة دون أن يلم إلمامًا جيدًا بعناصر اللغة ومكوناتها وأسرارها.
ويضيف "أما قناعتي التامة بضرورة كتابة الحوار بين شخوص الرواية بالفصحى، فتعود إلى أن اللغة الفصحى هي التي تجمع العرب كلهم، فالقارئ السوري أو المصري لا يستطيع فهم اللغة الدارجة المغربية أو الجزائرية، وكذلك سيجد القارئ التونسي مشقة في فهم اللغة الدارجة العراقية أو الخليجية وهكذا، لكن جميع القراء العرب قادرون على قراءة أي عبارة مكتوبة بالفصحى واستيعابها، الأمر الذي يجعل النص الروائي مفهومًا على نطاق واسع، ولكن أي لغة فصحى نكتب؟ أظن أن اللغة ابنة عصرها، تتطور به ومعه، فلا يعقل أن نكتب الفصحى الآن كما كان يكتبها الطهطاوي أو المنفلوطي أو حتى طه حسين، وإنما علينا ابتكار صياغات لغوية جديدة تستفيد من التطور الذي أحدثه النثر العربي الحديث على اللغة في العقود الأخيرة، وقد لعبت الصحافة دورًا مهمًا في خلق لغة فصحى رشيقة تجذب القارئ العام، والكاتب الموهوب هو الذي يستثمر هذا التطور ويعمل على دعمه وتحديثه من خلال بذل جهد فكري يعيد للغة الفصحى بهاءها المفقود وحلاوتها المنسية".