دبلوماسية محكمة العدل الدولية

حكم المحكمة الدولية مليء بالمفارقات السياسية المصاحبة، لعل أهمها تصويت قضاة دول، ومنهم إسرائيل، إلى جانب فقرات تميل للفلسطينيين.

سجلت محكمة العدل الدولية حكما قضائيا يعتبر سابقة يعتد بها للقضية الفلسطينية التي اعتبرت بموجبه الشعب الفلسطيني وحدة انسانية محمية بموجب القانون الدولي الانساني، وبالتالي محميا من اعمال التدمير والابادة الجماعية، وهي دعوى تقدمت بها دولة جنوب افريقيا امام المحكمة على قاعدة الاعمال التي تقوم بها إسرائيل في قطاع غزة.

ومحكمة العدل الدولية التي قبلت الدعوى، لم تأخذ بالطلب الإسرائيلي برفض الدعوى شكلا، واخذت برؤية جنوب افريقيا استنادا الى المادة 94 من النظام الاساسي لمحكمة العدل الدولية، والمعاهدة الدولية بشأن الإبادة الجماعية التي نظمتها الأمم المتحدة عام 1952 التي وقعت عليها إسرائيل والتي عادت وانسحبت منها في العام 1985.  

لقد حاولت المحكمة في قرارها قبول الدعوى والمضي بخطى دبلوماسية بين الغامها، وسطرت نصوصا قانونية دقيقة، من ستة بنود هي: إلزام إسرائيل باتخاذ كافة التدابير لوقف قتل الفلسطينيين، ومنع إيقاع ضرر جسدي أو عقلي جسيم بحقهم، ووقف أي إجراءات محسوبة للتسبب بفنائهم أو فناء جزء منهم (15 صوتا مقابل 2)، وإلزام الجيش الإسرائيلي بنفس الاحكام السابقة وبشكل فوري (15 صوتا مقابل 2)، ومنع تحريض المسؤولين الإسرائيليين على الإبادة الجماعية ومعاقبة المحرضين (16 صوتا مقابل صوت واحد)، وتوفير الخدمات الأساسية والمساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة (16 صوتا مقابل صوت واحد)، وامتناع إسرائيل عن تدمير أي أدلة على ارتكابها الإبادة الجماعية (15 صوتا مقابل صوتان)، وتقديم تقرير خلال شهر حول تطبيق الإجراءات الواردة في قرار المحكمة (15 صوتا مقابل صوتان) ويمكن تسجيل الملاحظات المبدئية التالية على القرار:

أولا: أشار القرار الى القضية بشكل مجتزأ ومفصولة عن العمق التاريخي واسبابها، انطلاقا من 7 اكتوبر/تشرين الأول وعدم الإشارة الى أسباب المشكلة كالاحتلال والأسرى والحصار او غيرها.

ثانيا: تم رفض الطلب الإسرائيلي برفض القضية أساسا وإلغاءها من السجل العام للمحكمة، وبعدم اختصاص المحكمة، فيما استجاب القرار لستة اجراءات من أصل تسعة احترازية مؤقتة تم طلبها من جنوب إفريقيا في الفقرة 144 من المطالعة القانونية المقدمة.

ثالثا: لم يشر القرار الى وقف اطلاق للنار كطلب رئيس في الدعوى، انما اشير اليه مواربة وضمنا، عبر مصطلحات غير قانونية او سياسية، كمثل الامتناع عن قتل أي فلسطيني والامتناع عن التسبب بأي أذى جسدي أو نفسي وإلزام الجيش الإسرائيلي بذلك، مقرونا بطلب تأمين الخدمات الأساسية والمساعدات أي وقف إطلاق نار فوري لكسر الحصار، ما يجب التنبه الى النص لعدم المواربة في تفسيره وتأويله.

رابعا: ثمة شبه اجماع على القرار الذي صدر بأغلبية 16 الى واحد و15 الى 2، ما يؤشر ان ثمة قناعة لدى القضاة بأن ثمة نية مبيتة بأعمال ابادة جماعية.

خامسا: اللافت في عمليات التصويت، ان القاضية الأميركية والقاضي الفرنسي والقاضي الألماني، صوتوا مخالفين لقرارات دولهم، ما يؤكد شفافية القضاة في سير أعمالهم واحكامهم بشكل عام.

سادسا: كذلك خالف القاضي الإسرائيلي أهارون باراك موقف حكومة بلده التي رفضت اختصاص المحكمة في القضية أساسا، باعتبارها مخاطرة بتقويض مشروعية إسرائيل حين تعرضها لإجراءات احترازية ولو مؤقتة، بناء على اتفاقية منع الإبادة الجماعية، التي تعتبر الاتفاقية وجدت لحماية اليهود أنفسهم؛ فقد صوت القاضي باراك مع القرار في بندَي منع التحريض وتوفير الخدمات الأساسية والمساعدات، أي أنه منح المشروعية لاختصاص المحكمة وفق اتفاقية الإبادة الجماعية في المبدأ.

سابعا: غريب المفارقات تصويت القاضية الاوغندية جوليا سابوتندي ضد كل بنود القرار بما في ذلك البندين اللذين أيدهما القاضي الإسرائيلي، وهو ما يذكرنا بموقف هرتزل في المؤتمر الصهيوني السادس في العام 1903، حين تبنى قبول الاستيطان في أوغندا كبديل مؤقت عن فلسطين باعتبارها ستكون المستعمرة وفلسطين ستكون "الدولة الأصلية".

وبصرف النظر عن الزامية القرار من عدمه، وكيفية تنفيذه، تبقى المحاكم الدولية وقراراتها ومن بينها محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية، محاكم قضائية دولية بأحكام مؤجلة التنفيذ، باعتبارها تخضع لاعتبارات كثيرة، من الصعب تجاوزها، ودليل ذلك أيضا الرأي الاستشاري للمحكمة نفسها الصادر في 7 يوليو/تموز 2004 حول جدار الفصل العنصري الذي طلب من إسرائيل ازالته.