دراسات في الشم

كل كائن بشري يمتلك رائحة محددة مختلفة عن رائحة الآخرين، وقد يتم الكشف عن هوية مجرم من خلال الرائحة المنبعثة من جسمه، كما يحصل مع بصمات الأصابع بفضل 'علم تعقب الرائحة'.

تقول دراسة علمية جديدة إن بعض الاختبارات الخاصة بالشم قد تساعد الأطباء في التعرف على الأشخاص الذين يحتمل إصابتهم بمرض الفصام المعروف بالشيزوفرنيا. وكان من الشائع في الدوائر العلمية لفترة طويلة أن الأشخاص الذين يعانون من فصام الشخصية يعجزون عادة عن التعرف على الروائح بشكل صحيح.

وقام الدكتور واريك بريور الذي قاد الدراسة مع فريق من زملائه في جامعة ملبورن بأستراليا، بفحص عدة أشخاص يواجهم خطر الإصابة بالاضطراب العقلي الذي يؤدي لاختلال الصلة مع الواقع المحيط أو انقطاعها. وتبين لهم أن معظم المعرضين للإصابة بالشيزوفرنيا قد عجزوا عن تمييز الروائح بشكل دقيق. وعلى سبيل المثال كانوا يعتقدون أن رائحة فطائر البيتزا هي رائحة برتقال أو أن رائحة العلكة أو اللبان هي رائحة تبغ. ويعتقد الباحثون أن تغيرات تحدث في المخ خلال المرحلة الأولى من الشيزوفرنيا هي التي تمنع المرضى من تمييز الروائح بشكل دقيق.

وقد علق البروفيسور فيليب ماجوري أحد الأساتذة في معهد لندن للطب النفسي على الدراسة ونتائجها قائلا: "يبدو أنها فكرة غريبة، لكنها قابلة للتصديق، فالجزء الذي يستقبل الروائح في المخ يرتبط بأجزاء أخرى هي التي تصاب بالشيزوفرنيا". وقال: "إن القيام بذلك في دقائق معدودة ومن خلال اختبار بسيط سيكون مفيدا للغاية". لكنه أوضح أن "هناك حاجة لإجراء مزيد من الدراسات قبل تبني هذا الأسلوب".

بصمة الرائحة

ويخبرنا العلم أن لكل إنسان بصمة لرائحته المميزة التى ينفرد بها وحده دون سائر البشر أجمعين، والآية 94 فى سورة يوسف تدل على ذلك. قال الله تعالى: {وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَن تُفَنِّدُونِ}. ففى هذه الآية الكريمة تأكيدا لبصمة رائحة سيدنا يوسف التي تميزه عن كل البشر، والتي شمَّها أبوه النبي يعقوب على مسيرة ثمانية أيام. واستغلت هذه الصفة المميزة أو البصمة فى تتبع آثار أي شخص معين، وذلك باستغلالها مثل كلاب "الوولف" التي تستطيع بعد شم ملابس إنسان معين أن تخرجه من بين آلاف البشر.

إن بصمة الرائحة التي يمكن تعقبها وحدها، أو بين روائح أخرى في الوقت الراهن أو حتى بعد عشر سنوات "هي جزئيات يخلفها أي واحد منا في المكان الذي يمر به، فكل كائن بشري يمتلك رائحة محددة مختلفة عن رائحة الآخرين، وقد يتم الكشف عن هوية مجرم من خلال الرائحة المنبعثة من جسمه، كما يحصل مع بصمات الأصابع بفضل "علم تعقب الرائحة" الذي وضع في أوروبا الشرقية وفي المجر خصوصا، وقد بدأت السلطة القضائية العليا في فرنسا تعتمد هذه التقنية كعنصر بين الأدلة المختلفة، وتم اختبارها بدراسات أجرتها الشرطة الفنية والعلمية  "بي . تي. إس".

ذاكرة الشم

ويبدو أن هناك علاقة وثيقة بين الشم والذاكرة لم تفهم بعد من قبل العلماء. فببساطة أنت لا تستطيع أن تشم إلا إذا استدعيت تلك الرائحة في ذاكرتك أولا. أو بكلمات أخرى فإن ذاكرتك تنشط بالرائحة. وهي ظاهرة تسمى بتأثير بروست (على اسم  العالم المكتشف). ذلك أن الإنسان يتذكر بالشمِّ بصورة أدق بكثير من الأحداث المرئية. 

وسرعان ما ظهر ما يسمى العلاج بذاكرة الشم حيث حقنت مجموعة من المتطوعين الذكور بحقن الأنسولين لمدة أربعة أيام بمصاحبة رائحة بعينها. كان معدل جلوكوز الدم يقل في كل مرة. في اليوم الخامس لم يُحقن المتطوعون بالأنسولين، ولكنهم تعرضوا إلى الرائحة ذاتها فنزل معدل الجلوكوز أيضا. وهو ما يدل على أن الرائحة قد تنشّط علاجا بعينه لبعض المرضى، وتقلل من جرعاته التي قد تسبب آثارا جانبية.

وهناك أناس يعانون من فقدان حاسة الشم، وقد يولد الإنسان بهذه الحالة، فيستمر بها طوال عمره، أو أن تكون هناك إصابة دماغية أو التهاب فيروسي كنزلة برد حادة وعادة ما تكون هذه الحالة مؤقتة. وقد عرفنا أن أحد أعراض فيروس كورونا المستجد (كوفيد 19) هو فقدان حاسة الشم التي تعود إلى المريض بعد استرداد صحته.

طِبُّ الروائح

أما أحدث صيحات دراسات الشم فهي ما تقوم به شركات العطور والزيوت المتخصصة، والتي تقرر أن الرائحة تؤثر على المزاج، والمشاعر، والتزاوج، والجهاز المناعي والهرموني فضلا عن الذاكرة. ففي بعض المحلات تُرش الروائح المميزة للإبقاء على الزوار لأكبر فترة ممكنة، بل وتُرش رائحة النقد لتحفيز العاملين على مضاعفة جهودهم في اليابان، ووجد أن التلاميذ الذين يشمون روائح كريهة في فصولهم يكونون أكثر ميلا للعنف، وقد توصل أحد العلماء إلى أن رائحة عرق الإبط تتحكم في مزاج الآخرين؛ حيث إن هناك إشارات كيميائية تفرز مع العرق تتصل بالمشاعر. وذهب العربُ إلى أن إدامةَ شمِّ البنفسج ينوِّمُ نَوْمًا صالحًا.

وفي أحد الأبحاث الجديدة دُرس تأثير الرائحة على واحدة من الأمواج الدماغية المسماة بـ alpha wave  (يعادل تذبذبها 8- 12 موجة في الدقيقة) والتي يعني نشاطها علامة الاسترخاء، حيث استخدم نبات الإيلنج والروزماري كأقنعة على الوجه، وتم قياس نشاط هذه الأمواج؛ فتبين أنه يقل مع نبات الروزماري وهو ما يعني أنه نبات منبه، كما أنها زادت مع نبات الإيلنج وهو ما يعني أنه نبات مهدئ، كل هذه التجارب تمت تحت فرع جديد من الطب يسمى بطب الروائح.

ولا شك أن هناك روائح تبعث على السعادة والابتهاج والنشوة والحركة والثقة بالنفس والتفاعل أو الاسترخاء.

"حين مررنا أمامهم تعالت أصواتهم ابتهاجا ونشوة من الرائحة التي كانت عليها هدى. نظروا إلينا. قاموا بتحيتنا دون أن نعرفهم ويعرفونا.

قالت إحدى اللبنانيات: شو ها الرائحة. بدِّي منها".

كما أن هناك روائح تبعث على الخمول والإيذاء والضرر والنفور والتقزُز والعنف، لذا نجد أن هناك عطورًا تباع بأغلى الأثمان، لمجرد التفنن في تركيبتها فلا يستطيع أحد تقليدها، بل إن هناك شركات عالمية ضخمة لصناعة العطور وتسويقها عالميا، ومهما بلغت أسعارها فلها زبونها ومشتريها.

"ما من إنسان إلا ويتعطر لأسباب كثيرة، ولا فرق بين فقير وغني، بين مسلم ومسيحي ويهودي وبوذي وزرداشتي ووثني، الكل يتعطر، ولا يوجد عطر حرام وعطر حلال، ولكن يوجد عطر غال وعطر رخيص. عطر "مضروب" وعطر أصيل، عطر ذو رائحة نفّاذة، وعطر لا رائحة له، وليس فيه سوى اسمه، وهناك عطر رجالي وعطر أنثوي، وحديثا عطر للأطفال".

وقد يحتاج الأمر إلى النهوض بتمرين حاسة الشم عند الطفل لتكون لديه المقدرة الصحيحة، على شم الروائح العطرة، والكريهة وتمييزها عن طريق شم العطور، والأزهار، وشم روائح السوائل فيختبر الخبيث من الجيد، وفي الوقت نفسه يحذر السوائل الخطرة عند شم روائحها.

وقد لوحظ أن الكلاب البوليسية تستطيع التمييز بين رائحة الأشخاص حتى التوائم غير المتماثلة (التوائم المتماثلة لها نفس الرائحة) كما أنها تشم مشاعر الخوف لدى الإنسان، وقد وُجدت هذه الخاصية في الحصان أيضاً.

وتقول الدراسات العلمية إن الشمَّ والتذوق حاستان من الحواس الكيميائية، إلا أن الشم أكثر حساسية من التذوق بما يعادل 10000 (عشرة آلاف) مرة وهي حاسة بدائية تقع في عمق الجهاز الهامشي للدماغ، وهو المسئول عن الجوع، والعطش، والمشاعر والتفاعلات الجنسية. والأنف يميز الروائح عن طريق خلايا متخصصة تعمل بدور المستقبِلات يقدر عددها في الإنسان بعشرة ملايين (تزيد في الفئران والقطط). وتمتلك هذه المستقبِلات انتفاخا في أطرافها، يخرج منه 8 إلى 20 من الأهداب غير المتحركة، وهذا هو المكان الفعَّال في هذه المستقبِلات.

وتستطيع هذه المستقبِلات التمييز بين أكثر من 10 آلاف رائحة مختلفة. وتنضج هذه المستقبِلات في الأشهر الثلاثة الأخيرة من الحمل، وتتفاعل مع الإشارات الكيمائية والتي لا بد أن تحمل خصائص معينة حتى تكون قابلة للشم؛ فمثلا لا بد أن تكون جزيئات الرائحة صغيرة بما يكفيها؛ لتكون متبخرة (بكتلة جزيء أقل من 300 - 400) فتصل إلى الأنف، وتذوب في المخاط، وتلتقط الإشارات، قبلما تتأثر أي من حواس الإنسان الأخرى.

وتخبرنا الدراسات أن حاسة الشم تتطور بعد خمسين ساعة من الولادة، ولكن الطفل لا يستطيع أن يفرق بين الرائحة الزكية والكريهة. وهو ما يدل على أن هذا الأمر يأتي بالتعلم والتجربة. كما أنه يستطيع أن يميز رائحة أمه بدقة كبيرة. ففي تجربة طريفة أجريت على ثلاثين طفلاً، مسحت أم إحدى حلمتيها ونظفتها، بينما تركت الأخرى كما هي تحمل رائحتها. ووضع الطفل بين ثدييها، فكانت النتيجة هي اتجاه 22 منهم إلى الحلمة التي لم تنظف مما يدل على أن رائحة أمه مميزة بالنسبة إليه.

(ما بين ظفرين، عبارات من رواية "الماء العاشق" للكاتب).