رؤى متعددة للقضية الفلسطينية في 'بيني وبين إستير'

الروائية المغربية بديعة الراضي تكشف في هذا الحوار أسرار شخصياتها بين طرف له الحق في الحفاظ على أسرار الانتماء وطرف ثاني يريد إضفاء الشرعية على قرارات ساهم الكل في بلورتها رغم أنها خاطئة وتقود إلى صناعة تاريخ بتدوين مزيف وكاذب.

الدار البيضاء (المغرب) - تستضيف جامعة المبدعين المغاربة في إطار برنامجها "ضيف الشهر" الروائية والإعلامية بديعة الراضي في لقاء مفتوح حول تجربتها الإبداعية وتوقيع روايتها الأخيرة "بيني وبين إستير" بالمكتبة الوسائطية التابعة لمسجد الحسن الثاني بالدار البيضاء.

وتتناول الروائية المغربية بديعة الراضي في "بيني وبين إستير" القضية الفلسطينية، وتحاول أن تصور الجدل الحاصل منذ الأزمنة الغابرة، بأصوات شخصيات متضاربة، منهم من رأى أن الشعب ضحى بالأرض وباع القضية، ومنهم من هو مستعد دوما أن تسيل دماؤه فوق ترابه، ومنهم من يرى أن الملكية لا تزول بالاحتلال، وآخر يشجع الحوار والسلمية ويعتبرهما الحل الأنسب لإنهاء القضية.

وفي هذا السياق قامت "ميدل إيست أونلاين" بحوار مع الروائية المغربية بديعة الراضي حول آخر أعمالها الأدبية، وفي ما يلي نص الجوار:

ما الذي دفعك لاختيار موضوع تاريخي سياسي معقد مثل القضية الفلسطينية؟

جوابا عن هذا السؤال الذي يرتبط بطبيعة فهمي للكتابة الروائية، أعتبر نفسي من الكاتبات اللواتي يحاولن البحث عن صياغة جديدة للأسلوب الروائي الذي أراه قريبا من تحويل وعيي العام إلى وعي سردي يجعل القارئ يرى ما أراه من تمثلات حقيقية تكشف عنها الكلمات والجمل والخطاب عامة، فتخرج من القوة إلى الفعل في بناء شامل يحمل كل أوجاع الحياة ليتحول إلى لغة الجمال، ولهذا يختلف الأسلوب وتخلف الأفكار كما تختلف كل التمثلات التي يخفيها المثقف وهو يتنقل في مؤسسات بمستويات تأويلية متعددة.

طبعا الشرط في كل هذه الاختيارات يختلف ويتحرر من الكتابة الكلاسيكية ليتجاوز الأسلوب السائد، لهذا فالرواية في نظري، هي بناء عوالم يؤمن بها الروائي فيحاول ما أمكن أن يبحث لها عن شكل تعبيري ملائم لهذا الاختيار، ولهذا أحاول دائما إعادة النظر في كل القضايا الكبرى التي أعيشها وأراها قابلة أن تكتب في شكل حياة، ربما لأن العالم الروائي يشكل المجال الأقرب إلى تحويل هذه المقاربات التي أعيشها يوميا في كل القطاعات الحياتية، فأحولها إلى بناء شامل، كل واحد يرى نفسه فيها من زاوية نظره، ومن منظور فهمه للأشياء المحيطة به.

وهذا التصور شكل الإطار العام، الذي من خلاله أفهم الكتابة الروائية، وهو الفهم الذي جعلني أجعل من موضوع القضية الفلسطينية أرضية قابلة للتداول في الحقل الروائي بصيغ متعددة أعبر فيها عن وجهات النظر المتناقضة والمتصارعة، فأستغل الفرصة على ضوء لسان السارد لأمرر ما أراه ملائما للأطروحة الممكنة حاليا في هذا الموضوع المعقد.

وهو موضوع  كما يراه من قرأ رواية "بيني وبين إستير" يناقش الكل بأسلوب إقناعي من أجل توحيد ما يمكن توحيده مع تصحيح المغالطات التي أراها مسؤولة عن ولادة الضياع، كما أراها مناسبة للبحث عن البديل الممكن في هذا الزمن المعقد، الذي لن يلد سوى السراب وإنجاز زمن قد يتضرر منه الجميع في غياب حكامة جماعية تجعل الكل يعيش ما سميته على لسان السارد البديل المشترك.

ولهذا أنا أعتبر هذه المقدمات أفكارا مهمة كانت سببا رئيسيا في استلهامي موضوع خاص يناقش قضية طال فيها الكلام وقيل فيها الكثير، في حين  أن مسارها برهن على فشل جل المحاولات، كما فصلناها بشكل مختلف على ضوء خطابات تمثل قوى مختلفة أنتجت موضوعا مبنيا على منطق البناء التناحري مؤسس على خطابات ذات بعد تضادي يتحرك بشرط البناءات االثنائية المتصارعة.

كيف نجحت في دمج الهوية والقوة والظلم داخل الحبكة الروائية؟

تشترط طبيعة الموضوع هذا التنوع الثقافي، كما تستحضر أشكال الاختلاف الهوياتي، لهذا توجهت في السرد إلى بناء أنساق معرفية بهويات متعددة كل واحدة ترى نفسها ذات الأطروحة السليمة، مادام التعدد يؤسس قوى متناقضة، فكل واحدة منها  تؤكد سر وجودها في موقع يؤهلها لتأكيد ذاتها، بغض النظر عن وضوحها أو ضبابيتها.

فالحقيقة في الرواية هي حقيقة طرف له الحق في الحفاظ على أسرار الانتماء وطرف ثاني يريد إضفاء الشرعية على قرارات ساهم الكل في بلورتها رغم أنها خاطئة وتقود إلى صناعة تاريخ بتدوين مزيف وكاذب.

لقد شكلت هذه المحاور التي يتحكم فيها منطق الاستمرار بشروط مختلفة مجالا خصبا لـتأسيس عوالم بوجوه متعددة، كل وجه يريد إبراز الذات من خلال مقولات سردية تعتمد فلسفة الوجود وتستدعي لذلك نصوصا إبداعية في هذا الصدد.

إن التنوع في ملامح الوجوه هو من ساهم في صناعة الوجود من زوايا تعري عن متاهة الظالم والمظلوم، وتكشف عن القوي والضعيف، كما رافق هذه الخصوبة في بناء الحياة في أبعادها المتناقضة ضرورة الكتابة بحبكة روائية، لها مالها من خصوصيات في صياغة هذا الكل المركب لحقيقة معقدة في تاريخ مازال يسيل بكل جراحه وآلمه، ومادام كل واحد يؤمن بالأطروحة التي يؤمن بها ويدافع عنها، رغم إيمانه بصحتها، وآخر يحلم بمستقبل تكتب عوالمه برماد حارق.

ما هو دور الشخصيات الرئيسية في الرواية، خاصة شخصيتي "إستير" و "دلال"؟ وكيف تم سرد تعقيدات وتناقضات شخصياتهما بشكل واقعي؟

في نظري لا يمكن كتابة رواية من هذا النوع في غياب شخصيات مختلفة في التوجه والشرعية، فهو اختلاف في الرؤى، إذ يكشف عن طبيعة الصراع المخفي والظاهر في مكان يعرف الكل أعماق الجحيم الذي يعيش فيه هو، وكذلك اختلاف في المقاربات، وفي آخر المطاف هو صراع خفي حول التاريخ  نفسه الذي يجمع كائنات لم تلق يوما ما في ملامسة طبيعة الصراع من أجل إيجاد حل نهائي سعيا إلى سلام شامل يصبح فيه الكل ينعم به.

يبقى الاختلاف الحقيقي في الواقع عبارة عن آثار لمشهد روائي، تشكل فيه شخصية "إستير" المقاربة التي تميل إلى قناعات إسرائيل، بينما تشكل فيه شخصية "دلال" الشخصية النقيض بقناعات فلسطين، فيظل الاختلاف بين الشخوص الأخرى يعطي مجالا مفتوحا لصناعة أفكار تكشف عن الصراع في الأقطاب نفسها متعدد ومتنوع، والذي من خلاله يتوجه المؤلف الضمني إلى عمق البناء بأسلوب يعتمد على الحكمة والإقناع العقلاني والفلسفي والسياسي، بمقولات سردية أكثر إثارة تتناوب عليها المحاور الصغرى والكبرى في الابداع والقضية التي شغلت الرأي العام الدولي منذ عقود.

 تم التطرق في روايتك إلى مفهوم الخصوصية والتملك، كيف ترين أن هذا المفهوم يتأثر بالظروف السياسية والاجتماعية؟

في رواية "بيني و بين إستير" نجد موضوع السرد مركب ومعقد، وهو لن يتأسس إلا على منطق الاختلاف بين أطراف تتمسك بطبيعة الانتماء، وهو تمسك يقوي خصوصية التملك، كما يعطي قيمة أكبر لهذه الخاصية، وهذا هو الإطار العام الذي تبني عليه الرواية ككل وكما لاحظتم فإن المقطع الافتتاحي الذي ينطلق من العنوان يشكل بوادر هذا التملك في البناء، كما يشكل المراحل الأولى لإنجاز مجال هذه الخصوصية.

فما "بيني وبين إستير" هي قواسم تؤسس لإشكالية هذه المفاهيم وأشكالها البعيدة والعميقة في بناء تاريخ يفرض شرط التعالق والتباعد السياسي والتمزق الاجتماعي في حياة ستظل في غياب حكامة الخط المشترك، تفرض الأبعاد الحارقة في وجود لن يرحم أبدا أي تأخر وتلاعب بفكر صناعة السلام.

ما هي الرسالة التي تأملين أن يستخلصها القراء من قصة الرواية؟ هل تهدفين إلى تحفيز التفكير في قضايا العدالة والسلام؟

الرسالة الأهم في رواية " بيني وبين إستير"، تكمن في طبيعة البديل الذي قدمته الرواية كخيار استراتيجي لبناء سلام يهم المنطقة برمتها وليس فلسطين وحدها.

فشرط الحكامة يفرض على كل الأطراف الجلوس على طاولة الحوار، بتغييب شرط الغالب والمغلوب، ومنطق القوي والضعيف، لأن المفروض هو خيار الإنسان كأهم مقاربة في موضوع تأسيس لتاريخ يستفيد منه الكل، أما لغة البندقية والطائرات الحربية، فما هي إلا أساليب يستفيد منها تجار الحرب وصناعها، الذين يسعون إلى الدمار والقتل من أجل تجارة رابحة لا يهمهم فيها الإنسان باختلاف عقيدته ولا انتمائه الجغرافي ولا السياسي ولا الاجتماعي ولا العقائدي.

لاحظت أن البيئة الجغرافية للقصة لعبت دورًا مهمًا في تطور الأحداث، هل كانت هذه الاختيارات الجغرافية مقصودة ومدروسة؟

يشكل المكان أهم محاور الخطاب في الرواية، وهو معطى طبيعي مادام هو أساس كل الصراعات والاختلافات بين كل المقاربات البشرية والفكرية التي تتناحر من أجل بناء عمل حكائي بأسلوب مختلف عن الحكي المتداول حاليا في الساحة الروائية العربية عامة والمغربية على وجه الخصوص.

لهذا لا يمكن تغييب عنصر القصدية في اختيار الأمكنة في العمل الروائي المقترح فكل عنصر مكاني له دلالته وقيمته الدلالية ووظيفته المرجعية في بناء تصور شامل لطبيعة الصراع الذي ساهم في بناء الأنساق الدلالية في الرواية ككل.

كيف استخدمت لغة الرواية وأسلوب السرد لتعزيز الجوانب الدرامية والتوتر في الحكي؟

كما لاحظتم أسلوب الرواية اعتمد على عدة خصائص، مرة يكون أسلوبا تصعيديا خاصة عندما يكون موجها للطرف المحتكر حتى لا يتموقع صاحب الأرض الحقيقي في موقع الطرف الضغيف، إذ أن تبني هذا الأسلوب يدخل في إطار الأسلوب التفاوضي، لأن التفاوض يشترط طرفين في موقع مشابه على مستوى الموقع الحواري، وذلك لكي لا يظل طرفا في وضع ضعيف على حساب الآخر، وهكذا سيكون الحوار غير متكافئ، ومرة أخرى نعتمد على أسلوب الحكامة والعقلنة عندما تقتضي الضرورة ذلك، خاصة في طريقة الإقناع.

فالإقناع كما تعرفون، يستدعي الجدال والحوار الهادئ والمرن، بشكل عام والأسلوب يخضع لأشكال الأوضاع، وهي ما نسميها بالمنظورات السردية، وزوايا الرؤية التي تعطي  لكل طرف من أطراف الحوار شكله وقيمته ودلالته في الحكي.

من خلال تجسيد الشخصيات النسائية في الرواية، هل كنت تهدفين إلى استكشاف دور المرأة في الصراعات السياسية والاجتماعية؟

توظيف الشخصيات يرتبط بطبيعة المقام الحكائي الذي يفرض على  شخصية الحضور، كما يفرض على شخصية أخرى بالغياب، أما توظيف المرأة في الخطاب الروائي، اشترطه طبيعة السياق الذي يؤطر الرواية ككل.

وفي هذا الصدد يمكننا الحديث عن هذا السياق المرجعي في لقاء السارد بكل من "دلال" الفلسطينية بالأردن، وهي الشخصية المرأة المدافعة في ترافعها عن بلدها فلسطين، في مواجهة "استير" المرأة التي تدافع عن إسرائيل في لقاء خاص بمناقشة وثيقة أممية تتعلق بحقوق النساء والإعلام.

وهذا اللقاء هو الذي اشترط بقوة حضور المرأة كفاعل مهم في كل الأفعال السردية في رواية "بيني وبين إستير".

كيف تعاملت مع تواجد القضية الفلسطينية في الرواية بموضوعية وتجنبت الانحياز السياسي؟

حاولت أن أكون منطقية بشكل كبير في تعاملي مع موضوع شائك وعريق في التاريخ العربي المعاصر، تعاملت معه  بأسلوب الحكامة التي أجبرتني، بصفتي مثقفة أنتمي إلى زمني، أن أعطي وجهة نظري التي تفيد الكل، سعيا لسلام عام يستفيد منه الكل، سلام تمهد له لغة العناق والمحبة، لا لغة الطائرات الحربية والمدافع التي تجعل من طبقة تتاجر في الإنسان ضاربة على الحائط الموضوع البشري جانبا، لا يهمها سوى المال والحروب، وساعدني في ذلك تخصصي الأكاديمي كباحثة في علم السرد، أن أترك الشخصيات تحكي وتدافع عن موقفها، وقناعتي بضرورة الإنصات من أجل وجود حلول لأي إشكالية مطروحة.

هل ترين أن هناك أملًا للسلام والتسامح رغم التحديات التي تواجهها المنطقة؟

أنا دائما أومن بالسلام، إذ يبقى الأمل معلقا على حكمة الإنسان العاقل الذي يلزمه أن يعيد النظر في فلسفته المذهبية والأخرى البشرية، حتى يتمكن من صياغة عالم آمن ورحيم ومطمئن، أما فكر الدمار فثبت تاريخيا أنه لن يفيد أي أحد في شيء، حيث يبقى الجميع ضحية هذه الاختيارات غير النبيلة التي تسهم في تدمير الأخضر واليابس، ويبقى دورنا نحن المثقفون هو إشاعة رسائل المحبة والأخوة والسلام في كل خطاباتنا الهادفة نحو إنسان لمستقبل مشرق كله بهاء وجمال.