رئاسة الجمهورية ليست إعاشة

لبنان ينتظر ما سيؤول صراع بغداد مع طهران ليستشرف تطوراته الآتية في الأشهر القليلة الآتية.

العراق يناجي لبنان ويدعوه إلى اقتفاء أثره. لكن العراق لم يتوحد بإكليل غار ولم يتقسم بغصن زيتون. مرت عليه العقائد كخيل تعدو في البادية تخلف غبارا ولا تحسم المعارك. لكن لبنان ينتظر ما سيؤول صراع بغداد مع طهران ليستشرف تطوراته الآتية في الأشهر القليلة الآتية. إيران التي ظنت أنها على مشارف انتصار ڤيينا، تفاجأت بمعركة بغداد. وإيرانيو لبنان الذين ظنوا أنهم على مشارف انتصار انتخابات رئاسة الجمهورية وانتصار في مفاوضات الطاقة مع إسرائيل، تفاجأوا أيضا بتسويف إسرائيلي قد يؤدي إلى امتحان عسكري ما. الشرق والغرب على أبواب بلدينا بالواسطة. ورئيس الجمهورية اللبنانية ستنتخبه أحداث العراق أو لن ينتخب.

بين لبنان والعراق علاقة سببية منذ عقود. تتشابه حينا وتتناقض أحيانا. واللبنانيون يصبحون أمام حتمية المواجهة، بل المقاومة، إذا حاولت إيران تنصيب رئيس من محورها. آنئذ، يفقد الحوار، الذي نؤمن به، جدواه. فما قيمة حوار مع جماعة أو دولة مصممة على قتالك واحتلالك من جهة، وتحتقر ذكاءك وتوهمك بشغفها بالحوار لتطبق خلسة عليك من جهة أخرى. إن انتخاب رئيس من خارج هوية لبنان السيادية هو فعل باطل يستكمل الانقلاب الجاري ويساوي الفراغ الوطني. والمسيحيون ليسوا مستعدين لتوزيع رئاسة الجمهورية إعاشة كل ست سنوات على هذا أو ذاك. ألم تنص مقدمة دستور الطائف على أن "لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك؟" فأي شرعية بدون رئيس؟ وأي عيش مشترك بدون الطائفة التي أسست العيش المشترك؟

اختلال النظام اللبناني منذ تسعينيات القرن الماضي تزامن مع اختلال الأنظمة العربية بين حروب وانقلابات وإرهاب وثورات أطاحت موازين القوى الإقليمية والتحالفات. وسقوط الدولة اللبنانية كان امتدادا لسقوط نظام أنظمة دول الشرق الأوسط. سقطت هذه الدول، وقد كانت كيانات دستورية، ظن بعضها أنها جزء من حالة قومية واحدة، عربية أو سورية أو لبنانية. لكن التطورات التاريخية، القديمة والحديثة، كشفت تجريدية الأفكار القومية واستحالة انتقالها من الكتاب إلى الأرض. وأصلا، غالبية هذه القوميات هي ترجمة قوميات غربية أغوت نخـبا لبنانية وشامية وعربية في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي أكثر مـما هي حالات قومية اختمرت من مسار علمي واجتماعي وتاريخي.

وحدها القومية اللبنانية، بل الفكرة اللبنانية، تجسدت قيصريا في دولة/أمة سنة 1920 لأنها جاءت في سياق نضال تاريخي حضاري، وجمعت أجزاء وطن ورد ذكره وفاح طيبه قبل أربعة آلاف سنة، ولأن نشوء لبنان قدم للشرق تجربة سلمية مميزة عن سائر المشاريع القومية الأحدية والعسكرية. رغم ذلك سرعان ما تبعثرت الدولة/الأمة اللبنانية دويلات وأميات. بعض مكوناتها نقلوا إليها عدوى ترحالهم وجائحة ولاءاتهم، ولم يميزوا بين الدولة والقبيلة وبين الحداثة والجاهلية. الأغلب أنهم ميزوا وفضلوا القبيلة والجاهلية... من هنا، والحاضر يعلم الغائب، لسنا مستعدين كلبنانيين عموما وكمسيحيين خصوصا، لأن ندفع "مؤخرا" في القرن الحادي والعشرين ثمن حرب علي ومعاوية، ولا ثمن حرب ريتشارد قلب الأسد وصلاح الدين الأيوبي، ولا ثمن حرب العرب والفرس، ولا ثمن حرب الغرب والشرق. مساحة لبنان هي مساحة السلام والأمن والحرية. ووحدة لبنان هي وحدة هذه الثلاثية: وحيث تكون هذه الثلاثية تكون مساحة الـــــ 10452 كلم² ناجزة ولو انحسرت إلى كيلومتر واحد وانحصرت فيه الشراكة الوطنية مع أهل الشراكة الجديين والحضاريين. والمسلمون اللبنانيون المؤمنون بالشراكة والدولة ليسوا أقل إيمانا من المسيحيين، وليسوا أقل ثـورانا منهم على الوضع.

تهاوت القوميات في الشرق لأن الدين وحده لا يصنع قومية جامعة ولا حتى دولة عصرية، لاسيما حين يكون الدين توقف في الزمن، وأنتج فائضا من الحروب الأهلية بين أتباعه. واللافت أن المشاريع القومية لم تتوار لمصلحة الدول الدستورية القائمة على مساحات تلك القوميات المزعومة كما حصل في أوروبا وآسيا وأميركا اللاتينية، بل لمصلحة الأديان والطوائف والمذاهب والاثنيات والعشائر والقبائل التي ضربت الفكرة القومية الكبرى والكيانات الدستورية المعترف بها دوليا.

هل هو فشل دورة شعوب الشرق حول التاريخ أم هو قنوطها من الحضارات الجديدة؟ هذه الأسباب تصلح لتبرير ضجر شعوب الغرب من بدع الحضارات وموجبات الديمقراطيات اللامتناهية. لكن شعوب الشرق لم تذق كفاية طعم الحضارة المبتكرة ونظم الديمقراطية لكي تتبرم منهما وتعرض عنهما. وحين اختارت جماعات أوروبية الانفصال أو الحكم الذاتي، ضمنت خطواتـها بالبقاء تحت مظلة الاتحاد الأوروبي أو حلف شمال الأطلسي. أما شعوب الشرق ـــ العالم العربي ــــ فمنها من طالب بالاستقلال الذاتي، ومنها من ذهب إلى التقسيم مباشرة من دون أن يتحصن بكيانات اتحادية جامعة تقيها أخطار الهيمنة والاجتياح لاحقا.

استغلت جماعات لبنانية فوضى الشرق، لترتكب جريمة اغتيال لبنان. وإذ ظل لبنان حيا رغم تشظيه، فقد ضعفت ثقة اللبنانيين في بلدهم، وفي ما بينهم. تفتك بالشعب اللبناني اليوم جميع أنواع الشكوك. والشك أخطر الأمراض لأنه يقضي على اليقين الذي منه تنبثق الثقة بالذات وبالآخر. نمتحن المشترك بيننا عند كل حدث، نشك في وجودنا وكياننا ونظامنا، في تعايشنا وأخوتنا ومحبتنا، في وحدتنا وهويتنا وتاريخنا، في سياستنا وخياراتنا وعلاقاتنا، في مسؤولينا وبيئتنا ومحيطنا. في جدوى تضحيات شهدائنا وفائدة دموع أمهاتنا. الشك يولد القلق الدائم، فنعيد النظر كل لحظة بثوابتنا. إن شعبا يعيش هذه الحالات الوجودية والوطنية لا يستطيع أن يبني مستقبلا ثابتا وموحدا، ولا يستطيع خصوصا أن يبني وطنا نهائيا...

لذلك، إن انتظار حل من خلال الواقع القائم ومن خلال هذه الجماعة السياسية هو أكبر عملية غش ذاتي. وما زاد هذا الشعور التركيبة النيابية الهجينة التي خرجتها الانتخابات النيابية في أيار الماضي، حيث تتصرف غالبية أعضائها كأطفال يدخلون للمرة الأولى إلى محل ألعاب. إن القوى الشعبية الرافضة هذا الواقع، أكانت مسيحية أم مسلمة أم درزية أم علمانية، مدعوة إلى التخلي عن وهم انتظار حلول جيدة من هذا النظام المركزي ومن رئيس جمهورية تفرزه هذه الجماعات. وأصلا إن غالبية الطامحين إلى رئاسة لبنان تصلح لتكون حكام إدارات ذاتية لا جمهورية وطنية موحدة. فلنغير المرشحين لئلا تصبح الجمهورية إدارات محلية.