رسالة ود مكتوبة بالصواريخ

إن أي حل للمسألة السورية لابد أن يُفضي، بالضرورة، إلى تغيير شكل المنطقة، كلها، وإلى صياغة توازناتٍ جديدة للقوى الدولية والإقليمية فيها.

ولأن أطرافا عديدة دولية وإقليمية لها مصالح استراتيجية تتأثر كثيرا بالوضع السوري، بشكل خاص، فلا يمكن تحقيق تقدم في الوضع المعقد العاصي على الحل في سوريا إلا بالمشاركة الكاملة بين روسيا من جهة، وبين أميركا وحلفائها من جهة أخرى.

وقد ثبت أن أكثر المتضررين بصعوبة الحل في سوريا هو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، نفسه. وذلك نتيجة لبقائه سنواتٍ وهو يعرقل الحل المعقول والمقبول، سوريا وإقليميا ودوليا، متوهما بأن في مقدوره عدمَ الاعتراف بمصالح الدول الأخرى، واحتكار الملف السوري، والمقايضة به مع أميركا وحلفائها في مناطق أخرى يحتاج فيها إلى مقايضة.

ومن أول التورط الروسي في العقدة السورية حاولت أميركا وحليفاتُها الأوروبية في مجلس الأمن الدولي ملاعبته وملاطفته بمشاريع قرارات مخففة مدهونة بالسمن والعسل لاستدراجه إلى قبول مبدأ المشاركة في الملف السوري، إلا أنه كان يضرب بها عرض الحائط ويستخدم النقض (الفيتو) لإبطالها، حتى بلغ عدد مرات استخدامه ذلك الحق إثنتي عشرة مرة في الشأن السوري وحده، كان آخرَها مشروعُ القرار الذي لا يدعو لأكثر من التحقيق في استخدام الغاز الكيمياوي في دوما مؤخرا.

وهو بهذا لم يُبق أمام أميركا وبريطانيا وفرنسا، ومعها ألمانيا وحلف الناتو، سوى لغة أخرى أكثر بلاغة وفاعلية، لمخاطبته وتبصيره بمخاطر الاستمرار في المكابرة، ولتبصيره بفداحة تكاليف المواجهة التي قرر الحلفاء الغربيون خوضها باعتبارها آخر الصبر الجميل.

ولكن أميركا وحليفاتها غلفت رسالتها الصاروخية بالرغبة في منع بشار الأسد من استخدام السلاح الكيمياوي ضد المدنيين.

أولا لإظهار الرئيس الروسي الضامن والحاضن والداعم القوي والوحيد لجرائم لنظام السوري، وخاصة الكيمياوية منها، مقابل إنسانية الرئيس الأميركي دونالد ترامب والبريطانية تريزا ماي والفرنسي ايمانويل ماكرون الذين تحملوا مخاطر الصواريخ وأثمانها الباهظة لمعاقبة من قام بارتكابها.

وثانيا إفهام إيران وبشار الأسد أن الاعتماد على الحماية الروسية الدائمة ضرب من الهبل والخبل وتضييع المال والرجال.

وبرصدٍ موضوعي وجاد لجميع ردود الأفعال الروسية والإيرانية والسورية على الضربة الصاروخية، وتحليل دوافعها ونتائجها يتبين أن ما أدركه الإيرانيون والسوريون، مؤخرا، يختلف مئة في المئة عما فهمه بوتين من الرسالة.

خصوصا وأن أميركا والدول الأوروبية الأخرى حرصت على إرفاق صواريخها بترويج أخبار عن فرض عقوبات اقتصادية وسياسية جديدة على نظام بوتين، مع التلويح، في الوقت نفسه، بالرغبة في التعاون والتفاهم وإلغاء العقوبات وتخفيف الضغوط السياسية عليه إن هو استمع لمنطق العقل وتخلى عن المواجهة وعاد إلى الحوار.

ولهذه الأسباب، مجتمعة، يصبح مفهوما سبب جعل الرسالة الصاروخية قصيرة وسطحية ودقيقة تفادت، بنجاح، أيَّ إزعاج لقوات بوتين، ولا لعناصر الحرس الثوري الإيراني وحزب الله والميليشيات العراقية التي تحمي النظام السوري وتشاركه في أغلب جرائم القتل والحرق التي ارتكبها ويرتكبها، سواء بالسلاح التقليدي أو الكيمياوي.

بالمقابل لم يفعل بوتين أكثر من أن يهاتف الرئيس الإيراني لكي يقول له "إذا استمرت هذه الأعمال التي تمثل انتهاكا لميثاق الأمم المتحدة فإنها ستؤدي حتما إلى فوضى في العلاقات الدولية". وهو يعلم أنها لن تتكرر.

فقد بادرت المندوبة الأميركية لدى الأمم المتحدة نيكي هيلي إلى الرد المشفر مطالبة روسيا بالضغط على سوريا و"دفعها" إلى طاولة المفاوضات.

كما نقلت وسائل إعلام روسية في وقت سابق عن فلاديمير إيرماكوف، المسؤول بوزارة الخارجية، قوله إن الولايات المتحدة ستحرص على الحوار مع روسيا بشأن الاستقرار الاستراتيجي بعد الضربات على سوريا. وأضاف أن "في الإدارة الأميركية أشخاصا معينين توجد إمكانية للحديث معهم".

ثم قالت المتحدثة باسم البيت الابيض ساره ساندرز إن "المهمة الاميركية لم تتغير"، مضيفة "الرئيس كان واضحًا، إنه يريد ان تعود القوات الاميركية بأقرب وقت ممكن الى الوطن".

وتابعت ساندرز "نحن عازمون على سحق تنظيم الدولة الاسلامية بالكامل وخلق الظروف التي تمنع عودته. وبالاضافة الى ذلك، نتوقع ان يتحمل حلفاؤنا وشركاؤنا الاقليميون مسؤولية اكبر عسكريا وماليا من اجل تأمين المنطقة".

ومؤكد أن هذه الإشارات المتبادلة بين الكرملين والأميركان والبريطانيين والفرنسيين والناتو هي التي جعلت الإيرانيين وبشار الأسد وحسن نصرالله وقادة المليشيات العراقية الإيرانية يخرجون على الدنيا غاضبين منددين بـ "العدوان الثلاثي" على السيادة السورية وعلى القانون الدولي، حتى أن بعضهم تنادى إلى التحرك الفوري لمهاجمة الأهداف والقواعد والمصالح الأميركية والبريطانية والفرنسية في الدول العربية والعالم.

وبما أن الصواريخ الأميركية الأوروبية لم تمس الإيرانيين ووكلاءهم بأي سوء، ولم تصب النظام السوري الذي يقاتلون لضمان بقائه في السلطة بمقتل حقيقي فلا بد أن يكون لهذا الغضب والثورة والتهديدات أسبابٌ ودوافع أخرى غير الحرص المغشوش على السيادة السورية والقانون الدولي، أهمها الخوف من تراجع بوتين عن مشروعه السوري الإيراني المشترك، وقبوله بمشاركة أميركا وحلفائها الغربيين والعرب والسوريين والأتراك والكرد في إدارة الملف السوري.

وأكثرُ ما يرعب النظام الإيراني أن يخرج من سوريا بخسارة ما أنفقه فيها من أموال ورجال، خصوصا في ظروف إيرانية داخلية حرجة جدا، الأمر الذي قد يشعل لهيب ثورة شعبية تهدد وجوده في الصميم.

ويعرف الإيرانيون ووكلاؤهم العراقيون أن أية هزيمة إيرانية في سوريا لا بد أن تقود إلى هزيمة لاحقة لهم في العراق، وهذا بالذات ما أشعل غضب العراقيين الإيرانيين.

خلاصة القول. إن الصواريخ الأخيرة الذكية جدا قبل أن تكون بردا وسلاما على بشار الأسد وطائراته وسلاحه المكدس في المستودعات، كانت أيضا، وبالمقدار نفسه، بردا وسلاما على جميع قواعد الحرس الثوري الإيراني في سوريا والمليشيات اللبنانية والعراقية والأفغانية المنتشرة في الهواء السوري الطلق، ولا يخطئ رؤيتها إلا أعمى بصر وبصيرة، وبوارجُ أميركا وبريطانيا وفرنسا ليست كذلك.