رفع الدعم عن وحدة لبنان

جميع القوى اللبنانية ارتكبت الأخطاء والخطايا والذنوب، لكن حزب الله فاقهم جميعا حتى أصبح، منذ سنة 2004، "رمز" مشاكل لبنان وصوت الانفجار.
يا ليت حزب الله يدرك حدود القوة وحدود الجغرافيا وحدود الكلام المستباح
في لبنان من يصر على إكمال العد العكسي حتى الواحد وفي ظنه إخافة اللبنانيين فيستسلمون قبل الصفر

بعد أزمة الصواريخ في كوبا (1962) ثم اغتيال جون كينيدي (1963)، ترشح ليندون جونسون لخلافته سنة 1964. أعد جونسون لحملته الرئاسية فيلما دعائيا ناجحا عرف بـــ"ديزي". نرى فيه فتاة صغيرة تنزع أوراق زهرة أقحوان ورقة ورقة. وما إن تصل إلى الورقة الأخيرة حتى يسمع صوت رجل يـعـد بصوت جهوري عكسيا من عشرة إلى صفر كأن العالم يقترب من لحظة إطلاق صاروخ نووي. وسرعان ما تظهر صورة انفجار هائل، يعقبه صوت جونسون يقول للأميركيين: "رهاننا أن نبني عالـما يعيش فيه كل أبناء الله بأمان أو يغرقوا في غياهب الظلمات. فليحب بعضنا البعض الآخر لئلا نصل إلى انفجار نووي جديد ونموت".

بعد نحو ستين سنة لا تزال رمزية "ديزي" صالحة للعالم، وبخاصة للبنان. هل نريد أن نبني لبنان ديمقراطيا، حرا وآمنا وحضاريا لنا جميعا، أم سنواصل العد العكسي حتى الصفر والعدو نحو الانفجار الوطني الشامل والارتطام النهائي؟ سابقا، بلغنا الانفجار أكثر من مرة من دون أن نرتطم، واستعدنا الحياة وأكملنا الشراكة. أما اليوم، ففي لبنان من يصر على إكمال العد العكسي حتى الواحد وفي ظنه أنه يخيف اللبنانيين فيستسلمون قبل الصفر، لكنه سيخسأ اليوم كما خسئ سواه بالأمس. فاللبنانيون لا تخيفهم الأصفار والأرقام والأعداد. يوجد في لبنان من يقتل "ديزي" ويحافظ على الرجل الذي يقربنا من ساعة الصفر. هؤلاء نزعوا أوراق جميع زهور الأقحوان وسائر الزهور، وآثروا العيش في الظلمات. ولعوا بساعات الصفر وبأصوات الانفجارات. نشروا روح العداء المختلق كأننا لسنا جميعا أبناء الله، ولا أبناء وطن واحد وأبناء قرى ومدن واحدة. لماذا النزعة العدائية المجانية والعبثية تطغى على إرادة الشراكة والحياة؟

نرانا نعيش حالة سادية منطوية على حالة مازوشية في مواجهة حالة نيرونية مبعثها حالة يوضاسية. هكذا نتبادل العذاب والتعذيب والإجرام والخيانة. أصبحنا أسرى هذه العقد المأساوية، ونحن ولدنا لنكون عصارة حضارة هذا الشرق الذي هو أصلا لقاء نورين: الله والشمس.

جميع القوى اللبنانية ارتكبت الأخطاء والخطايا والذنوب، لكن حزب الله فاقهم جميعا حتى أصبح، منذ سنة 2004، "رمز" مشاكل لبنان وصوت الانفجار. الآخرون تراجعوا، ولو أخيرا، عن مشاريعهم حين اصطدموا بوحدة لبنان والشراكة الوطنية ووجود الدولة. أما هو، فجعل هذه "المقدسات الوطنية" هدف رماياته.

حاول جميع الأطراف اللبنانيين مقاربة موضوع حزب الله من زاوية سلاحه وتجاهلوا مشروعه، فاقترحوا الحوار معه والشراكة في الحكم والاستراتيجية الدفاعية. جميع المحاولات باءت بالفشل لأنه يعتبر سلاحه جزءا من مشروعه الديني المضاد الوجود اللبناني بما فيه الشيعية اللبنانية التاريخية. هوية الشيعة في لبنان، وعقيدة حزب الله في إيران.

لقد غير حزب الله لبنان واقعيا من دون عناء عقد مؤتمر تأسيسي. صار هو النظام والسلطات والقرار. ينفذ ما يريد ويعطل ما غيره يريد. أقام السلام في الجنوب وخلق أجواء حرب مع اللبنانيين. وضع يده على دستور الاستقلال ودستور الطائف، وترك الآخرين يتصارعون على صلاحيات مجازية فيما الصلاحيات الحقيقية بين يديه. قام بانقلاب مستمر، وأهل "الثورة" لم يـتفقوا بعد على بنود التغيير، ولا أخصامه على تكوين جبهة وطنية تواجه عبثه بحياة اللبنانيين وبمصير لبنان. حصر في ذاته الموالاة والمعارضة وأنهى سلفا الانتخابات في مناطقه. يتفرج على الموالين يعدون أصوات الناخبين المقيمين، وعلى المعارضين يجمعون أصوات الناخبين المهاجرين. صحيح أن حزب الله لم يتمكن ـــ بعد ـــ من كف يد المحقق العدلي، لكنه عطل التحقيق والقضاء ومجلس الوزراء. صحيح أنه عجز عن منع تأليف المحكمة الدولية، لكنه ضرب عرض الحائط بأحكامها. صحيح أنه لم يلغ القرارات الدولية بشأن لبنان، لكنه يعرقل تنفيذها. صحيح أنه لم يفرض خط التفاوض البحري مع إسرائيل، لكنه جمد المفاوضات حول تثبيت الحدود اللبنانية/الإسرائيلية. صحيح أنه لم يقسم اليمين مثل رئيس الجمهورية، لكنه يتخذ القرارات كأنه رئيس جمهورية.

يتصرف حزب الله كأنه مرتاح إلى وضعه طالما لا تواجهه الشرعية اللبنانية بمؤسساتها، وما دام المجتمع الدولي لا يتدخل فعليا سياسيا وعسكريا واقتصاديا للحد من نفوذه وهيمنته. لا يبالي بالعقوبات الأميركية وبالتصريحات الدولية العقيمة، ويراهن على قرف العالم من لبنان. وإذا كان ينزع أوراق الأقحوان كلها فلأنه يعتقد أن دفع لبنان نحو الانهيار الكامل والشامل سيحبط الدول الصديقة في العالمين العربي والدولي، ولا تعود متحمسة لإنقاذ "دولة محروقة"، فيضع يده نهائيا على البلاد. لكن توقعات حزب الله صعبة التحقيق لأن مشكلته ليست مع اللبنانيين فقط، إنما مع مجموع هذه الدول الصديقة. وفي سياق هذا المنطق، يفترض بدول الخليج أن تعزز دورها في لبنان بدل أن تنسحب منه لئلا تعطي حزب الله إشارات خاطئة، بل مشجعة.

يا ليت حزب الله يدرك حدود القوة وحدود الجغرافيا وحدود الكلام المستباح. يا ليته يفتح كوة في الجدار الفاصل بينه وبين سائر اللبنانيين ليلتقي بهم سلميا وينقذوا معا لبنان. لكنه يزيد مسافة الابتعاد ويرفع لهجة التهديد. إن إغلاق الأبواب في بلد الانفتاح ينهي العلاقة الوطنية. إن التجارب والمحن كشفت مدى انقساماتنا وصعوبة رأبها مع حزب الله وغيره عوض أن تؤكد وحدتنا. نعيش في أزمة مجمدة ونزاع متفجر. تحظر علينا الحلول وهي موجودة، ويسمح لنا بالمشاكل وهي مختلقة. والأنكى أن الـمشركين في ولائهم للبنان يخونون موحدي الولاء. آخر التـــرهات.

لا نستطيع أن نكمل المشوار هكذا. تحررنا من دور أم الصبي لأن الصبي يكاد يموت من شدة تناتشه وتناتفه وتجاذبه. يتوسل إلينا أن نحسم وضعه. ينادينا أن نتصالح أو نفترق. جميع الحلول أفضل من الحالة التي يعيشها الصبي ونعيشها جميعا. لا قيمة للوحدة خارج السعادة. لا قيمة للوطن خارج الولاء. لا قيمة للمواطنية خارج الحرية. لا قيمة للدولة خارج الدستور. لا قيمة للشراكة خارج المساواة. ولا قيمة للاستقلال خارج السيادة. إننا نطالب بحق استعادة لبنان، كل لبنان. والشعوب تعرف كيف تستعيد أوطانها.