سمر دريعي بحساسية تنطح الريح وتلامس ألم الحياة وأملها

ابنة عامودا المدينة المتدفقة بالمبدعين على امتداد الزمن تلمس في الكثير من أعمالها أجزاء من سيرتها الذاتية.
الفنانة السورية المخزون الجمالي عندها امتداد لزوايا الذاكرة وما تحمله من انتماء للمكان

يكفي أن نعرف أن سمر دريعي 1977 هي ابنة الفنان الأشهر عبدالرحمن دريعي (1938-2001) أمير الناي وأحد أهم رواد التأسيس للفن التشكيلي في الجزيرة السورية، له مؤثراته التي فعلت فعلها لدى الجيل اللاحق من بعده، فهو في الأساس تاريخ للفن وأفكاره.

قال عنه عمر حمدي/ مالفا (1951-2015) في أحد حواراته: "قبل تخرجي من المعهد (معهد إعداد المعلمين) بقليل، سكن في بيتنا، في الغرفة الثانية، بالإيجار شاب في العشرينيات مع زوجته قادما من عامودا، اسمه عبدالرحمن دريعي، كان يعزف على الناي مساء، ويرسم في النهار، كان عبدالرحمن أول معلم لي في الرسم، كلما غاب عن البيت وضعت حجرا تحت قدمي، ونظرت عبر أسفل النافذة العريضة إلى لوحاته، مرة سمعته يقول لوالدي: دع عمر وشأنه، دعه يرسم، سيأتي يوم ليتركه حين يكبر.. "، حتى ندرك أن غصنها الباسق لم ينبت من فراغ، فهي التي رضعت الفن من بيت يضج باللون والعزف.

وكان لا بد لهكذا جو أن يؤثر فيها وفي توجهاتها وعلى نحو أخص حين أحست أن دمها ليس أحمرا، بل يحمل من كل الألوان، وأن الطريق الذي سيرسم لها ستكون من هذا الينبوع العذب، فكان لا بد أيضا أن يكون لتدفقها طعما آخر تشكل فيما بعد مسارها الذي سيلخص مجمل حياتها وتطلعاتها وطموحاتها، ومن حقها، أقصد من حق سمر أن تعلن عن نفسها في شكل تجهد فيه للارتقاء إلى الذرى الجمالية التعبيرية، من حقها عدم الاغتراب والتوهان، عدم فقدان المعالم المكانية خصوصا، فدفء البيت الأبوي، بأمانه واستقراره يحيلها على الحرية والانطلاق، وتكسير كل الأغلال، يحيلها إلى دهشة الفرح الأول بإيقاعاتها المختلفة، فتتلقف فرشاتها لتلون رؤاها بروحها الإبداعية، فمنها تستمد حكايتها المقدسة بنبضها المتحرك، بأسرارها، وتمضي بها وهي حاملة مفاتيحها نحو صحوة ترتكب فيها يقظتها، تسافر بها وببصيرتها نحو مدن باتت كجذور أشجار قطعت كل أغصانها، تعطي الصراخ استنجاده، فهي لا تتردد في مخاطبة إدراكاتها بكل جرأة وبحساسية تنطح الريح، وبالتالي امتلاك القدرة في أن تفطن متلقيها إلى القيمة الجمالية لحكايتها أقصد لتجربتها. 

سمر دريعي هي ابنة عامودا المدينة المتدفقة بالمبدعين على امتداد الزمن، ابنة عامودا وبساطتها، ابنة شرمولا ووجعها، ابنة اللحظة الحساسة وبياضها، تلك اللحظة التي ستقودها نحو عالم الإبداع وتراكماته، العالم الذي سيجعل ارتباطها بالحياة ليست حركة في فراغ، بل استغراق في المرئي واللامرئي مما يجعل تجلياتها البصرية تبدو وكأنها تعيد بناء تجربة داخل تجربة، تجربة مرتبطة بإدراكاتها الفنية إلى حد كبير، وتجربة قائمة على سن عناصر مميزة وفاعلة في برمجة نمط من الاشتغال الذي يقوم على خلق المشهد البصري وفق وقائعها الخاصة ووفق حصيلة من المثيرات البصرية ذات سمات قد تجعل كياناتها الجمالية وجود بذاته، حتى أنك تشعر أن الكون يسكن داخلها، فالمخزون الجمالي عندها هو امتداد لزوايا الذاكرة وما تحمله من انتماء للمكان حيث الحضارة المادية تجعلها في نقاء مع الذات، وتجعل عيونها القلقة تتقن لغة الموسيقى واللون.

لغة القطعة الموسيقية والصورة البصرية، لغة ستضعها أمام اكتشاف نفسها وسر تمازج دوائرها بالنسيج الشرقي وبتلك النبضات الملحمية من الرؤية الإنسانية، فكل شيء عندها يرقد بهدوء ويحكي حضورها المستمد من خطوطها وألوانها ولمساتها، من فضاءاتها المبهرة، والمدهشة بتفاصيلها المواكبة لتأملها عمقا لوجوهها المتعبة جدا، فمجمل ما رسمته دريعي من تلك الوجوه ترتدي القدر بكل قساوته، ترتدي سريرا من موت محتقن ولو إلى حين، قد تكون دعوة لرفض الظلم والقلق والخوف، فالتمرد هنا طاغ والخطوة القادمة مساحة للخروج من مجرة الفراغ نحو مجرة الحركة، فممارسة اللعبة الفنية هي مواجهة مع الذات أولاً ومع الجمال أينما وجد ثانيا.

وما المقولات الخصبة بالزغاريد الضوئية وبالقيم الجمالية إلا مجاراة لتلك الصرخات في تحولاتها الموجعة، فبالمقارنة بين أهمية ما تبدعه دريعي من تكوينات تعبيرية تجريدية ممزوجة بالحلم والوجع وعلى نحو أخص تلك الأعمال اللاهثة في اتجاهاتها وصداها والقادرة في تقديم نفسها وتعريفها ضمن إشارات مميزة تؤكد حميمية اللحظات التي تلد فيها اللوحة، وبين موضوعاتها كمسألة غير معقدة، وليس أمامها سوى ملاحقة ما ترغب اللوحة أن تقوله ذاتيا دون تدخلاتها، نجد أن دريعي تحمل قدرات استثنائية في توضيح مشروعها مع حتمية السير فيه نحو الإنجاز وإن ضمن وجهة نظر قابلة للجدل الطويل، تسير فيه بلغة لا تعبث بجذور الروح، بل تسقيه من طيور أحلامها ومن بقايا مزامير والدها الذي يجري في نسغها كندى على أوراق التوت في صباحاتها وتحترم زحام الوصول، مما يدفعها نحو عدم المراهنة بزمن الضوء الهارب بانحناءة خجولة نحو أشرعة الغياب كشرط للإمساك بالحالة ووسائطها، بل تدعه يتسلل إلى مفاصل وجوهها بكل لحظاتها، بل بكل عناصرها الدائرة في فلكها، وبكل أمواجها الهائجة منها والهادئة، والقادرة على بث انفعالاتها بالشكل الذي يصور تعاملها مع الحيز الجمالي دون أي تغيير في دلالاتها، فحساسيتها كتعبير تشكيلي هو نتاج مولدات مرتبطة باللون داخل سياق ثقافي مرتبط بدوره بالممكن من خطابها المتحول لا الثابت وفق نمط من الوجود فيه ينظم الآثار المعنوية دفعة واحدة رغم الصعوبات في استيعاب وحداتها وإن كانت ضمن أنساق هي الدعامة الأهم في إنتاج الصيغ التعبيرية لديها.

فدريعي ودون أن تسقط فرضيات شيئية من البعد الإيحائي للعوالم الجمالية التي قد تساهم في إغناء تغيير أو ترسيخ لسلسلة انزياحاتها في ملفوظاتها المنجزة، ترصد مشاهدها البصرية بتحديد وقائعها لإدراجها كوحدات تعبيرية وكمحفزات للذاكرة البعيدة بإمكانها أن تحقق عمليات لا مرئيّة تقودها نحو التمايز.

دريعي في عام 2012 اختيرت كواحدة من 30 فنانا من بين 400 فنانا لعرض أعمالهم في جميع متاحف رومانيا، وهذا يسجل لها ولنا أيضا، رغم عدم غرابة ذلك، فهي غصن من شجرة عبدالرحمن دريعي، بل ثمرة من ثمراته وامتدادا لنايه وريشته، ولهذا كانت موفقة إلى حد كبير في خطواتها وبالتالي في اختياراتها التي ستحدد فيما بعد طبيعة إنجازاتها من خلال المحور الدلالي الذي تشتغل عليه، المحور الذي سيكون المادة الأهم لحصيلة حيزها في التحققات الممكنة، والذي سيفعل (بضم الياء وتشديد العين) تلك الوقائع التي تخترقها دريعي بجرأتها غير المحدودة، فهي تعد بحق من الفنانات التشكيليات القلائل اللواتي اشتغلن على الجسد بطريقة تنظم قيمه الدلالية، وتحدد مقولتها الحاملة لرؤيتها وهي تتدافع في الكثير من أعمالها لتعلن عن نفسها ككيان يستحق أن يكون الحياة ونبضها، فهي وبصيغ تعبيرية تخرج التفاصيل المحسوسة البالغة الغنى والأهمية من معطيات فيها تتنوع الممارسة الإنسانية لآليات تكشف خبايا الظاهر والباطن معا دون أية زحزحة في البعد الاجتماعي أو الأخلاقي، انطلاقا من جملة مسارات تأويلية عليها تفرش هلوساتها الانفعالية، فالجسد الذي يعد بحق كما قيل خزان للدلالات، دريعي خير من تحمل مفاتيح هذا الخزان لتنثر محتوياته على أعمالها بألوان أقرب إلى رومانسية مبطنة (موف مثلاً).

ونتساءل معها، مع دريعي هل "ما زالت تبحث عن روح لذلك الجسد الصامت الذي أوجدته ريشتها"، حسب تعبيرها، نتركها في بحثها لنقترب لاحقا من أعمالها ونحن نبحث عن تلك الروح.

وفي نوع من الشروع نحو استكشافات تروي نهوضها غير المفاجئ، استكشافات فيها من التقاطع بين تلاوين وقائعها ما تجعلها تستند على تجليات من كوتها يكون النفاذ منها نحو رحاب مضاءة بمختلف أبعادها، بمختلف عناصرها المليئة بالاندفاعات التي ستجعل من استشرافها لتخوم منجزها نوعا من تنظيراتها للآفاق في مدها المتعارف عليه، فهي لا تتمسك برموز تعيدها إلى الواقع، بل تجدد في دفقات دلالاتها بوصفها شكل آخر للنهوض والانفتاح على ما يوحي بالغبطة والتناغم دون أن تدع أي عبث يأخذ مجراه في تعالقات منجزها، فهي حريصة إلى حد كبير ترك اللحظات مشرعة على أزمنة فيها قد تتجدد الوجود وفق معطى عام تفي بحاجاته من تكثيف دلالاته إلى كسر المسافات واختزالها في فعل قادر على التبرعم بالدفء والحياة.

سمر دريعي من الفنانات القليلات اللواتي سخرن غربتهن للدراسة، فلا وقت لهن إلا للرسم والمعرفة والإبداع، فهي منذ أكثر من عشرين عاما تعيش في رومانيا ومن جامعاتها نالت الماجستير في اللغة البصرية وفلسفة الفن، كما فيها ناقشت أطروحتها للدكتوراه في النقد الفني الفلسفي ونالتها بفرح وحماس، من ذلك نستنتج إلى أي مدى تعشق سمر الفن وإلى أي مدى هي فاعلة ومؤثرة في جوه، وعلى نحو أخص في الوسط الروماني حيث تقيم، فاستطاعت أن تخلق لذاتها في فضاءاتها حيزا جميلاً يليق بها وبطموحاتها.

سمر تعول على مكوناتها الخاصة، وعلى التكثيف الدلالي حيث الدفق الحركي يكون على أشده، والحاجة الجمالية التي تنشدها تكون في أوجه، ولهذا فهي لا تستطيع أن تلغي استدلالاتها التي تعصف بمجمل أعمالها، ولا أن تعطل ما أبتدع من مجازاتها، فهي تستخدم دائرة الاحتماء في توزيع مقاطعها التي لا توهم إلا بالجدة والابتداع إلى حد يستحيل فيه حشدها إلا في دائرة المباح، فهي تدفع بمنجزها على دروب انتشلت منها كل ما يعرقل سير هذا المنجز مستخدمة كل ما هو متاح لها من حركات موالية للاواقع، وأخرى تحجب الواقع ليعود إلى رحمه أقصد إلى نبعه من جديد في لعبة تستدعي منها الإلحاح في كسر المراوحة وتبني إيقاعا جديدا يوصلها إلى الضفة الأخرى بأريحية خاصة وملفتة، وفي ضوء ذلك فهي لا تستقر على سكة واحدة وإن كانت غارقة إلى حد كبير بتعبيرية فيها من التجريد ما يغني تجربتها ويسجل هذا لها.

لكنها ما زالت تبحث والبحث عندها ليس دائريا، بل منكسرا يحتاج إلى دراية عالية بأسرار الغور حتى يعود الباحث بكنزه الثمين، وسمر تملك تلك الدراية وبإيقاع دلالي يظهر قساوته على سطوح أعمالها، فتذهب لتلعب دورا مهما في رفد نصها بسلسلة غير مألوفة من تصورات غير مألوفة تسهم في بلورة البنية الإيقاعية لعملها والتي ستجعل لتجربتها حوافر ضوئية لاستعادة صورتها الصوتية منها والدلالية، فسمر تنفض الغبار عن الروح، روح العمل التي هي بالتالي روحها وروح متلقيها أيضا، تلك الروح التي ضاعت في زحمة الحروب.

سمر دريعي لا تنحاز إلى التمركز حول ماهيات كلاسيكية التي قد تطيح أي مشروع يولد لديها، فهي تتجه نحو بناء ينفعل من خلال حرارة أو برودة الشكل، أي أن فعل التعبير عندها انفعالي يأتي ويلد من التسامي بالأحاسيس والعواطف والتي تدعم بدورها لدواخلها المنسجمة مع ذاتها جدا في نسق ومنظومة رؤيوية متكاملة، فهي تلمس في الكثير من أعمالها أجزاء من سيرتها الذاتية، فتولي عناية خاصة باستقراء ملامح من تلك السيرة وهي بهذا زمنيا وبمعيار جمالي مسك أنموذج لتكشف عن جمال آخر لم تنتبه إليه كان يخفق فيها، فهي تحكي بريشة فيها من القساوة الكثير، حبها، حزنها، فرحها، تعبها، نجاحاتها، خيباتها، تجلياتها، انكساراتها، وهنا لا يمكن أن يخفى علينا لغتها وهي تعكس مخبوءاتها، لغتها التي لا يمكن أن يفهمها إلا من كان غارقا في بحر اللون وحاملاً مفاتيح أسراره. 

وفي ذلك جرأة تفتح أمامها آفاقا تمضي بها بتتابع داخل الزمن الذي تتمسك به مهما كان المدى ممزقا، فهي لا تحتاج إلى سعة مكان أو ضيقه، ولا إلى مفارقات تحمل كل معاني الانفتاح على الذات وعلى الآخر أيضا حتى تلامس ألم الحياة وأملها، فهي تفصح عن كل ذلك بتمزقاته وانشطاراته، تصريحا وتلميحا بأن عتبة الاجتياز للوقت بالنسبة إليها مباحة مهما كانت تحمل من خصائص العلو والشهق، إنها تمرر رسالتها عبر هذه العتبة لتؤكد أن الانسجام مع كائنات الأرض محال، كائنات خرافية خلقت لتتقن الحياة بحب ونقاء، ولكن غادرتها تلك الحياة وذلك النقاء لتبقى في عزفها للخراب الذي فيها، حقا إنها محنة الزمان والمكان وما ينبض بهما، محنة استطاعت سمر أن تلامس عمقها وتظهرها لمتلقيها بسحر وعنفوان، فهي لا تستسلم في النهاية تاركة ذاكرتها كوشم بين تكويناتها، متحدية قوة الحياة، تاركة لسيرتها المعرفية، والإبداعية أن تتحدى البياض بكل حب وهدوء.

سمر دريعي تشكل إلى جانب فنانات أخريات فيفيان الصائغ، ملك مختار، خديجة بكر، مفيدة ديوب، هالة فيصل، سارة شمة، ميساء محمد، خولة العبدالله، ميسون علم الدين، عبير أحمد، هبة العقاد، إيمان حاصباني، سارا شيخي، سناء بلول..... إلخ جوقة جميلة تنثر العبق الملون لا في ملفوظات الفن التشكيلي السوري فحسب، بل في روحه أيضا فعلى أجنحتهن لن يموت النهار.