سنستمر في طرق جدران العقل

حرب غزة غامضة ببداياتها وأسباب استمرارها.

الحرب المعممة على كل الشعب الفلسطيني وخصوصاً جرائم الإبادة الجماعية في غزة، وصمود الشعب وما يعانيه القطاع من أوضاع مأساوية غير مسبوقة في التاريخ المعاصر، وصمود المقاتلين التي أثبتت أن الكيان الصهيوني ما كان له أن يستمر دون دعم وحماية واشنطن والغرب... كل ذلك يبرر أية كتابة أو حديث عن عظمة الشعب وصموده وعن الإجرام الصهيوني، بل يعتبر الحديث والكتابة بهذه القضايا واجب وطني وقومي وإسلامي وأممي حتى وان كان ذلك في سياق أضعف الإيمان.

لكن في نفس الوقت وحتى لا تجرفنا العواطف بعيدا ونترك للآخرين تحديد مستقبل قضيتنا الوطنية ومستقبل قطاع غزة ويمرروا علينا مفاهيم ومصطلحات وتصورات لوقف العدوان ومستقبل غزة تشتت انتباهنا وتعيشنا في حالة تيه وفقدان البوصلة، يجب التعالي على الجراح وكبح العواطف وإعمال العقل في كل ما يجري وتطبيق "فقه الأولويات". وفي الحالة الراهنة فإن الأولوية هي كيفية وقف العدوان وإنقاذ ما تبقى من قطاع غزة شعباً وأرضاً وإفشال مخطط التهجير، دون أن يكون في ذلك أي مساس بشرعية المقاومة أو تراجعا عن الأهداف الوطنية الاستراتيجية كتحرير فلسطين وتحرير كامل الأسرى في سجون الاحتلال ووقف الاستيطان وما يتعرض له المسجد الأقصى من انتهاكات. فهذه أمور يمكنها التأجيل في هذه المرحلة، ووقف العدوان وتثبيت الشعب على الأرض وتعزيز صموده يبقي القضية الوطنية حية ويفتح آفاقا لتسوية سياسية عادلة توظف حالة التفاعل الإيجابي الدولي مع فلسطين.

كثير من التغطية الإعلامية العربية وكتابات المحللين السياسيين وخصوصاً خارج قطاع غزة يغلب عليها الخطاب العاطفي والانفعالي دون طرح رؤية عقلانية واقعية لكيفية وقف العدوان ومرحلة ما بعده، بل يعتبر البعض أن الحديث في هذه الأمور الآن يعتبر خذلانا للمقاومة وتشكيكا بقدرتها على الانتصار وحسم المعركة لصالحها! حتى الطبقة السياسية في المنظمة فهي وإن كانت تدين العدوان وتطالب بوقفه وترفض التعاطي مع الموقف الأميركي إلا أنها تفتقر لرؤية عملية لمرحلة ما بعد الحرب ومترددة ومتخوفة من تحمل مسؤولية القطاع وحدها دون توافق عربي ودولي وموافقة حركة حماس التي ما تزال تسيطر على أجزاء من القطاع. أيضا القيادة السياسية لحركة حماس في قطر تقوم بدور الوسيط وتقدم مقترحات لصفقات هدنة، لكن القرار النهائي يبقى في يد الجناح العسكري في غزة. وفي جميع الحالات لا توجد رؤية أو موقف وطني مشترك ولا يسأل أحد الشعب الفلسطيني في غزة عن رأيه سواء في مجريات الحرب أو ما بعدها، وفي كل مقترحات وقف العدوان لا أحد يأخذ في الاعتبار أو يحسب حساب عشرات آلاف الشهداء وأضعافهم من الجرحى وما تعرض له القطاع من تدمير شامل!

أكثر من مائة يوم مرت على الحرب العدوانية ولا يبدو في الأفق نهاية لها ولا أخد يعرف ماذا يريد نتنياهو. حتى التوصل لصفقات تبادل أسرى لا يعني نهاية الحرب التي يريد نتنياهو أن تطول الى حين تنفيذ ما يخطط له. وقد سبق أن كتبنا بأن هذه مجرد جولة من حرب ممتدة منذ 1948 ولم يقطعها إلا سنوات معدودة (1994-2000) بعد توقيع اتفاق أوسلو سادت فيها حالة أللاحرب وأللاسلم. وبالتالي حتى لو أعلن العدو وقف إطلاق النار ووقف الحرب على غزة، فالحرب والصراع سيستمران بين الفلسطينيين والإسرائيليين في غزة والضفة والقدس وخارجهما، بل ستشتد أوزار الحرب والصراع بعد ما جرى في غزة لأن ما جرى أضفى على الصراع بعداً دينياً وثقافياً واجتماعياً وولد أحقاداً لن تزول قريباً.

بعد أكثر من مائة يوم لا يستطيع الكيان اليهودي الصهيوني الزعم أنه انتصر ولا تستطيع حركة حماس وفصائل المقاومة القول بأنها انتصرت، والنصر هنا بمعني تحقيق الأهداف الاستراتيجية لكل منهما وهي أهداف مبهمة عند كليهما. وهناك فرق بين الانتصار في جولة أو معركة في الحرب والانتصار بمعنى إخضاع الطرف الثاني واستسلامه.

يمكن للعدو أن يتحدث عن إنجازات حققها كتدميره 80% من المساكن وتخريب البنية التحتية والمدارس والمستشفيات وقتل حوالي 25 ألف و8 آلاف مفقود و60 ألف جريح فلسطيني وإضعاف القدرات العسكرية لحماس وتجويع الشعب الخ. ولكنه لا يستطيع الزعم بأنه حقق أهدافه التي أعلنها في بداية هذه الجولة من الحرب، اطلاق سراح أسراه عند حماس وإضعاف قدراتها العسكرية والقضاء على قياداتها. وفي اعتقادنا أنها أهداف دعائية ولإرضاء الشارع اليهودي المتعطش للانتقام وهناك أهداف غير معلنة. حتى وإن حقق الأهداف المعلنة فهذا لا يعني أنه انتصر على الشعب الفلسطيني بالمفهوم الاستراتيجي للانتصار، لأن حماس ليست وحدها المقاومة وليست الشعب الفلسطيني وإن كانت جزءاً من كليهما. وهذه الإنجازات المزعومة لا تساوي شيئاً أمام الإهانة التي تعرض لها الكيان على يد المقاومين واهتزاز صورته أمام العالم وانكشافه ككيان إرهابي يمارس الإبادة الجماعية ضد شعب فلسطين، وبالتالي فقدان التميز الذي كانت إسرائيل تخدع به العالم بأنها دولة ديمقراطية تسعى للسلام وأن اليهود وحدهم تعرضوا للهولوكوست، وخصوصاً أن محكمة العدل الدولية تسعى لاتهام إسرائيل بممارسة الإبادة الجماعية.

أيضاً يمكن لحركة حماس أن تتحدث عن إنجازات كاقتحامها الحدود في السابع من أكتوبر وقتلها واختطافها لعشرات الجنود والمدنيين وصمودها في الحرب لمائة يوم وإيقاعها الخسائر في صفوف العدو وأنها استطاعت تحريك الرأي العام لصالح القضية الفلسطينية... ولكن حتى لو تمكنت من إطلاق سراح أسرى من سجون الاحتلال فإن أي حديث لها عن الانتصار بعد الحرب سيكون بعيداً عن الواقع.

إنها حرب غامضة في الأهداف وغير معروفة نتائجها لأن هناك كثيراً من التساؤلات حول ما جرى يوم السابع من أكتوبر، سواء فيما يتعلق بهدف حماس من اقتحام غلاف غزة، هل هو تحرير أسرى أو وقف العدوان في القدس والضفة أو أن العملية خطوة نحو تحرير فلسطين؟ أم أن ما جرى يوم 7 أكتوبر خرج عن كل التوقعات وفلتت الأمور من يد حماس، أم أن هناك ما هو خفي وستكشفه الأيام؟ أيضا هناك غموض والتباس في هدف الكيان الصهيوني من إعلان الحرب، بل أيضاً هناك شكوكاً حول دور لنتنياهو فيما جرى في السابع من أكتوبر. فإن كان هدف الكيان القضاء على قيادة حماس فهذه موجودة في قطر ويستطيع استهدافها كما استهدف العاروري في لبنان أو خطف الطائرة التي يستعملونها في تنقلاتهم الدائمة بين الدوحة والقاهرة وله سوابق في ذلك. وإن كان هدفه تحرير أسراه فإن قصفه العشوائي يفند ذلك حيث لا يعير اهتماماً لهم ومستعد للتضحية بهم من أجل أهداف استراتيجية أكبر. أم يهدف لفصل الشمال عن الجنوب ودفع الناس تحت القضف للهجرة لجنوب القطاع تمهيدا لترحيلهم لسيناء، وهناك تصريحات لقادة صهاينة عن تهجيرهم لسيناء أو لقبرص والتواصل مع دول عدة لاستيعاب أهالي غزة كما أن مخطط دولة غزة الموسعة باتجاه سيناء مطروح منذ سنوات عند المخططين الاستراتيجيين الإسرائيليين وسبق أن تحدث عنه مستشار أمني إسرائيلي كبير وهو أيغورا أيلاند؟ أم يهدف نتنياهو لإقامة منطقة أمنية عازلة يكون كل شمال قطاع غزة بما فيه مدينة غزة جزءا منه؟ كل ذلك يزيد المشهد تعقيداً.

للأسف عندما تكتب أو تتحدث بعقلانية وواقعية بعيداً عن الشعارات والأيديولوجيات والعواطف الجياشة والحسابات الحزبية الضيقة ستجد كثيرين يقدرون ما تكتب ويتقبلون الانتقادات، ولكن في نفس الوقت ستفتح على نفسك نار جهنم من بعض مكونات الطبقة السياسية بكل أطيافها في غزة والضفة عندما تكشف ضعفهم وحالة التيه التي يعيشونها وغياب الرؤية واستغلالهم جميعا معاناة الشعب في القطاع لمحاولة الحفاظ على مصالحهم السلطوية وزعم كل منهم أنه يمثل الشعب والأحق بحكم غزة بعد الحرب، ونكرر ما سبق أن كتبناه قبل أشهر (هل تستحق سلطة في غزة كل ما جرى) وما نخشاه في هذا السياق أن يكون كيان غزة هو دولة حل الدولتين وصراع فلسطيني داخلي على من يحكمها.