"سوتونغ" يطارد تجليات الحياة والموت

يارا المصري تترجم ثلاث روايات للكاتب الصيني تبحر في عمق الوجود الإنساني وما يحيط هذا الوجود من طموح وانكسار.

الربيع في مصنع تعليب اللحوم، حياة أخرى للنساء، القناديل الثلاثة، ثلاث روايات للكاتب الصيني سوتونغ، تبحر في عمق الوجود الإنساني وما يحيط هذا الوجود من طموح وانكسار، ويشكل فيه الموت ملمحا رئيسيا حيث تواجه الشخصيات في الروايات الثلاث بوقائع الموت رغم اختلاف الظروف والأحداث، وتكاد تتخبط في مصائر تراجيدية متشابهة، وفي القلب من هذه المصائر يبرز صوت النساء، مرئياً ومطابقاً لصوت حياةٍ ممزقة.
وفي تقديمها للروايات الثلاث الصادرة عن دار مسعى لفتت المترجمة يارا المصري إلى أن الموت يأتي منظورًا إليه من المصير الإنساني بتعدد مستوياته، الطموح، الوحدة، الحرب، وقالت "حتى هذا "الموت" يأتي كذلك بتعدد المصير الإنساني، الموت نتيجةَ حدثٍ عارض، أو الموت كجريمة قتل، والموت الطبيعي، والموت نتيجةَ الحرب. لكن كيف يعالج سوتونغ وقائع الموتِ هذه في ارتباطها بالمصير الإنساني؟ 
إنه يعالجها بالفرار الدائم نحو أمرٍ ما، نحو الطموح في الرواية الأولى "الربيع في مصنع تعليب اللحوم" ونحو الإقلاع عن حياةٍ رتيبة ونحو مكائد النساء في الرواية الثانية "حياة أخرى للنساء" ونحو البحث عن مركب ضائعٍ في النهر حتى وإن كان يحمل موتى أو قتلى حرب في الرواية الثالثة "القناديل الثلاثة". 
ورأت المصري أن مطابقة أحداث الروايات على اختلافها بالطبع، وما يشعره كل إنسانٍ في ذاتِه، فسوف نجد أننا نحمل بشكل أو بآخر، هذا النزوع إلى الفرار كسلوكٍ إنسانيٍّ يتوخى البحث والطمأنينة، وإن كان الوجه الآخر للفرار قد تكون المأساة مرئيةً تمامًا، وفي ذلك يقول سوتونغ: "يبدو أنَّ الفرارَ واحد من أكثر الأفعال المفضلة لدي،......، وأعتقد أن هذا الفعل أو السلوك أحد أهم المواضيع التي يعالجها الأدب، ومن أهم المحاور الرئيسة التي تجمع وتحوي كل شيء، لأن فرار المرء يحقق الكثير مما يُسمَّى بقيمة الإنسان والتراجيديا في الوقت ذاته". 
ربما يمنحنا ذلك ملمحًا بسيطًا عن المحور الرئيس الذي تدور حوله الروايات الثلاث القصيرة في هذا الكتاب، سواء أكان الفرار أو الهرب باختيار الشخصيات كما يظهر في رواية "حياة أخرى للنساء" أو في رواية "القناديل الثلاثة" أو أن يكون الفرار الحل الوحيد والأمثل لكن من الصعب تحقيقه كما يظهر في رواية "الربيع في مصنع تعليب اللحوم"، والفرار المقصود ليس قضية أخلاقية مقابل المواجهة مثلًا، إذ تبدو جميع الشخصيات في الروايات الثلاث، كما لو كانت مجبولة من الضعف الإنساني المُحاط بأقدار تكاد تكون وجودية، إذ ما الذي يمكن أن يفعله مُربِّي بط فقير وأمِّي في مواجهة "حرب" رغم أنه وهذه مفارقة لم يهرب كما سكان القرية الأقوياء كالعمدة. 
كما أن الروايات الثلاث مُسندة في أحداثها على أصوات النساء، بدرجة أو بأخرى، وإن كانت هذه الأصوات أشد وضوحًا في رواية "حياة أخرى للنساء" وهو عنوان كأنما يؤجل حياة المرأة كلها إلى "الزواج أو الموت أو الشجار مع نساءٍ أخريات" في نظرة ناقدة لوضع المرأة في المجتمع الصيني، الذي يُرى بشكل أو بآخر في مجتمعاتٍ أخرى في العالم.
وأضافت المصري "لعل وصول فيلم "ارفعوا المصابيح الحمراء" المقتبس عن روايته "زوجات ومحظيات" إلى قائمة ترشيحات الأوسكار، وكتابته سلسلة من الروايات الأخرى مثل "حياة النساء" و"حياة أخرى للنساء" قد صنفت الكاتب سوتونغ واحدًا من أفضل الكتاب الذين كتبوا عن المرأة، وبرعوا في وصف طبيعتها وتفاصيل حياتها وعالمها الداخلي، إلا أنه لا يهتم لتلك التصنيفات كما قال في حوار معه: "في الحقيقة إن وجه كتاباتي هو أنني ألصق جانبًا من وجهي بالجانب الآخر، فأنا أرتدي قناعًا في الأصل، وليس لدي تصنيف بإمكانه أن يفسر معنى كلماتي تفسيرًا كاملًا، لذلك لا أدري إلى أي تيار أنتمي، ولا أعير اهتمامًا لذلك الأمر أيضًا، لكني أظن أنني أكتب وفقًا لحدسي وتصنيفي أنا".
وقالت "الحياة العادية الرتيبة كابوس الشباب. ربما يكون هذا مغزى الرواية الأولى "الربيع في مصنع اللحوم" والتي تحكي عن طموحات شاب أُحبطت في مواجهة وتغيرات المجتمع. حيث وُزِّعَ جين تشياو للعمل في مصنع لتعليب اللحوم بعد فشله في كلية الشؤون الخارجية، وتكشف الرواية عن حبه ورغبته في العمل كدبلوماسي، إلى حد السقوط في أحلام اليقظة، لكنه ينتهي مجمَّدًا وميتًا في ثلاجة لحفظ اللحوم. 
وفي رواية "حياة أخرى للنساء" تنتهي امرأة إلى الزواج وأخرى إلى الموت قتلًا وثالثة إلى ارتكاب جريمة، وبين طابق علوي تعيش فيه امرأتان وحيدتان وطابق أرضي حيث يقع دكان لبيع المخللات، تعمل فيه ثلاث نساء، تدور أحداث الرواية، وكأن الحيز الضيق هذا، هو ما يمكن أن يُتاح للمرأة، فتوسعه بالنميمة والمكائد والقتل والرغبة في الفرار بالزواج. 
رواية "القناديل الثلاثة" تمنح مفهومًا جديدًا للحرب والوحدة. حيث يقول بيان جين "خذهم إلى مكان أفضل، إلى مكان ليس فيه حرب!" مخاطبًا المركب الذي يحمل ثلاثة جثث ويمضي سابحًا مع تيار النهر. 
وتدور أحداث الرواية في إحدى القرى التي نزح أهلها بسبب الحرب، بعضهم أخذ حاجياته ومواشيه، وآخرون تركوا كل شيء وهربوا، ولم يبق غير بيان جين مُربِّي البط وأحمق القرية كما يسميه الناس وحيدًا باحثًا عن بطَّاته، ومتفاديًا رصاصات وأعيرة نارية تُطلق هنا وهناك. إلى أن يقابل الفتاة شياو وان ذات الوشاح الأخضر وتتغير حياته في مواجهة الموت بالذات.
•    مقتطفات من الروايات الثلاث
** الربيع في مصنع تعليب اللحوم
كانت النافورة متوقفة منذ فترة طويلة، ولم يتبقَ إلا بركة ماء مليئة بالقاذورات من مخلفات أوراق، وعلب وقشور برتقال، وأدرك جين تشياو فجأة أنه يجلس في مكان غير نظيف، فهمَّ بالمغادرة، ولكن في اللحظة التي التفت فيها سَمِع صوتًا عاليًا وحادًا: "تظن أن هذا المكان قذر، أَهو أقذر من مسلخ مصنع اللحوم؟" تلفَّت جين تشياو حوله وقد بدا عليه الارتباك والحيرة، وكانت تلك الأصوات العجيبة تباغته مؤخرًا، أو أنها ليست أصواتًا مُتَخَيلة، بل صوت فؤاده يحاوره. ويراوده إحساس بأن هذه الأصوات ترافقه كظله بوقاحة يومًا بعد يوم، ساعيةً إلى السخرية منه، والاستهزاء به حتى إهانته، وساعيةً بشراسة إلى تدمير ثقته بنفسه واحترامه لذاتِه لأقصى درجة، وقد بث هذا الرعبَ في نفسه. "اذهب، لا تبق في هذه الأماكن القذرة، اذهب إلى الأماكن الجميلة النظيفة التي يجب أن تذهب إليها". 
بدأت أذنه تمتلئ بتلك الأصوات المزعجة، وفي الوقت ذاته وقع نظره على سربٍ من الذباب يطير من نافذة قاعة انتظار القطار، بقع سوداء تحلق بشكل عشوائي، كمثل المسافرين المندفعين في الميدان. وتعجب من قدرته على تمييز الذباب في نور الغروب الخافت، لعل هذا مرجعه إلى عمله عدة أيام في المصنع واعتيادهِ لحم الخنزير والذباب. "أَهذا الذباب الأزرق؟" 
تذكر فجأة ما أخبره به العمال الكبار في المسلخ عن أن هذا الذباب يتغذى فقط على جثث الحيوانات النافقة، ولا يقترب من الحمَّامات، ولا يحوم حول القمامة، لا يتغذى إلا على اللحوم. "أَهذا الذباب الأزرق؟" كان جين تشياو يهمهم محدقًا إلى الذباب، وبدت ابتسامته لعوبًا للغاية.
عبر الذباب ناحية النافورة المقابلة وكاد يلامس خديه، وأدرك جين تشياو أن هذا المكان قذر حقًّا، ما دام الذباب قد بلغَه، فلا بد له من الرحيل. وكان قد ابتعد بضع خطوات بالفعل، ولكنه التفت بوجهه، واكتشف فجأة أن سرب الذباب هذا يطيرُ من حقيبة جلدية. وكانت تلك الحقيبة غارقة في أوساخ وقاذورات تشبه الحقيبة التي سحبها شيوي كي شيانغ في ذاك اليوم. وخمَّن أن شخصًا ما طائشًا مسرعًا نسيها هنا، قطب جين تشياو حاجبيه وحدّث نفسه: "الذباب الأزرق بالفعل"، وهو يمقت هذه الحقيبة وهذا الذباب، ولكن ولا ندري لماذا دفعته رغبة ملحة في التأكد من أن الحقيبة بها لحم خنزير أم لا. وبعد مرور عدة ثوانٍ من التردد اتجه ناحية الحقيبة وفتحها، ليجد كومة من أمعاء خنزير ورأسًا، قفز جين تشياو صارخًا، وتأكد تمامًا في تلك اللحظة من أن هذه الحقيبة قادمة من المصنع، لا، هذه الحقيبة التي كان يسحبها شيوي كي شيانغ. رأس خنزير، كومة أمعاء وأشياء أخرى، الرب يعلم لماذا تبعته إلى محطة القطار!
** حياة أخرى للنساء
اعتادت العاملات إيقاع حياة الأختين جيان، إذ تنقسم أيامهما المضجرة والموحشة إلى شقين، صباح كئيب، وما بعد ظُهرٍ أكثر كآبة وطولًا. سنوات متواصلة أفنيتاها على حامل التطريز، وباعتبار العاملات نساء مثلهما، فقد كن يرين أن حياتهما غير معقولة، من الصعب سبر أغوارها، وبهذا كن يقابلن حياتهن كقناص متأهب. 
انتبهت جيان شاو فانغ إلى أختها الواقفة خلفها بصمت، تحمل صحنًا فيه دواء لونه أسود وتقرِّبُه من شفتيها. فالتفتت جيان شاو فانغ تلقائيًا وأدارت ظهرها وراقبت قِدر حساء اليقطين. لا تدري ما الذي يصيبها، فيداهمها خوف شديد من هيئة أختها وهي تشرب الدواء، تخاف رؤية حاجبي أختها المقطبين وبقايا الدواء السائل من بين شفتيها، تخاف سماع صوت البلع الممض ذاك. ولا تدري لِمَ تقف أختها الكبيرة إلى جانبها دائمًا حاملة صحن الدواء، كما لو أن ذلك يخفف من مرارته. "بمَن التقيتِ في الأسفل؟". وضعت صحن الدواء على الطاولة، وسألتها فجأة.
"لم أصادف أحدًا، بمَن سألتقي على كل حال؟".
"لِمَ تأخرتِ؟ لقد ذهبتِ إلى دكان المخللات، فلِمَ تأخرتِ كل هذا الوقت؟"، غسلت فمها من بقايا الدواء ثم سألتها. 
"هل تأخرتُ وقتاَ طويلاَ؟"، نظرت إليها جيان شاو فانغ باستغراب، ثم أسرعت إلى الغرفة ونظرت إلى الساعة، حيث كشف الوقت عن مدى سخافة كلام أختها، فلم تغب إلا ثلاث أو خمس دقائق. "ما بك يا أختي؟ لم أتأخر إلا ثلاث دقائق"، قالت لها. 
"أشعر وكأن وقتًا طويلًا قد مر". هزت جيان شاو جين رأسها وقالت: "ربما اختلط عليَّ الأمرُ بسبب جلوسي وحدي، أشعر بأن الوقت طويل للغاية كل مرة تنزلين فيها، أشعر بالخواء، ولا أستطيع الإمساك بإبرة التطريز، لا أدري ما السبب، ربما الخوف، لكن لا أدرى الخوف من ماذا".
** القناديل الثلاثة
سمع بيان جين دويًا هائلا وثقيلًا يرج النهر، وتفرقت البطَّات هنا وهناك، فاندفع من الحظيرة ممسكًا بالمنديل بالأبيض، وكان يعلم أن الحرب اندلعت بالفعل هذه المرة. أمَّا ماء النهر فقد توقف عن التدفق تجاه المصب، وتفسخت سماء الفجر، حتى أحس بيان جين أنهم أحدثوا فجوات فيها، وسال دم وقيح بلونين أسود وأحمر، كانت الحرب قد اندلعت بالفعل، لكنك لا ترى الرصاصَ المُتَبَادَل، ولا تسمع هجوم الجنود، لا ترى إلا دفقات من دخان البارود، كضباب هائل يغمر الأرجاء، ترى أسراب العصافير تعبر النهر بفزع، وتفقد طريقها مرتبكة. كانت هذه الحرب حقًّا، ولم يتوقع بيان جين أن دمار الحرب يسفر عن دخان أسود هائل كهذا، ولم يتوقع أن طلقات الرصاص ستدوي أكثر من دوي الألعاب النارية في بلدة ما تشياو عشية عيد الربيع. 
كان موقع الهجوم على شكل حرف T بمحاذاة النهر، حيث كان إطلاق النار على أشده هناك، ومن بعيد يمكنك رؤية احتراق أعواد القصب الجاف، حيث غيرت الريح مسار القذائف المشتعلة ناحية القرية، وشاهد بيان جين تلك القذائف تطير بسرعة إلى أعواد القصب الجافة التي تمتصُّها متفجرة. 
لم يكن قادرًا على حساب المسافة بينه وبين الجنود، لكنه حين رأى القش يحترق في لمح البصر من قذيفة وقعت في حظيرة البط، لم يكن متأكدًا من أن الطلقات ستصيبه أم لا، بل كان يريد جمع تلك البطَّات المذعورة بسرعة، ليرحل بها عن ضفة النهر المكشوفة، ويمضي إلى القرية. 
هَشَّ بيان جين البط ناحية القرية، وفجأة ارتجت القِدر التي يضعها على رأسه، وأدرك أن رصاصةً أصابته. لم يكن بيان جين خائفًا من طلقات الرصاص كما كان من قبل، وحاول بكل جهده أن يلوح بالمنديل الأبيض. "أنا مدني، وأعزل!". هكذا كان يهتف لكل شجرة وكومة قش، لكنه لم يرَ سواها، وبدا أن لا خطرَ يهدده داخل القرية. شهد بيان جين بعينيه الأعيرة النارية والطلقات المتبادلة، لكنه لم يلمح جنديًا واحدًا، وخمَّن أن الجنود ربما يكونون محجوبين بسبب النيران والدخان الأسود. 
يذكر أن سوتونغ ولد في شهر يناير عام 1963، في مقاطعة جيانغسو في جنوب الصين. وفي عام 1980 التحق بقسم اللغة الصينية ـ جامعة المعلمين في بكين ودرس هناك. وبدأ الكتابة عام 1983. ويعمل الآن كاتبًا في رابطة الكتاب الصينين التابعة لمقاطعة جيانغسو، حيث إنه متفرغ تمامًا للكتابة والـتأليف. وقد حازت أعمال سوتونغ على جوائز عديدة، منها جائزة البوكر الآسيوية في دورتها الثالثة عام 2009 عن روايته الطويلة "قارب الخلاص" وأُدرجت روايته "زوجات ومحظيات" ضمن أفضل مائة رواية صينية في القرن العشرين. وحَصُل أيضًا على جائزة لوشون الأدبية في دورتها الخامسة عام 2010، وهي واحدة من أرفع وأكبر الجوائز الأدبية في الصين، كما حاز على جائزة يو دافو الأدبية عام 2012. 
أما المترجمة يارا المصري فقد درست اللغة الصينية في كلية الألسن، جامعة عين شمس في القاهرة وفي جامعة شاندونغ للمعلمين في مدينة جينان بالصين، من ترجماتها رواية "الذوَّاقة" للـ "لو وين فو"، والمجموعة القصصية "العظام الراكضة" للـ "آشه"، والفرار عام 1934 للكاتب سوتونغ، والمجموعة القصصية "رياح الشمال" للكاتبة بينغ يوان، و"أحتضن نمرًا أبيض وأعبر المحيط" مجموعة شعرية للشاعر الصيني الراحل خاي زي، ورواية "زوجات ومحظيات" للـ "سوتونغ".