سياسيون وطنيون لا أتباع هو ما يحتاجه البلد

في العراق، سياسيون عراة من رداء الوطنية، لا يحاولون حتى التستر بستار ولو شفاف.

ليس بالإمكان إستنساخ عبدالناصر، وتيتو، ونهرو، وسوكارنو، لسبب بسيط أن هؤلاء الكبار نتاج مرحلة مختلفة عما نعيشه ونواجهه الآن، لكن ما أقدموا عليه وسعوا من أجل تثبيته فيما عرف فيما بعد "الحياد الإيجابي"، هو الأمر الجوهري الذي تستوجبه الحالة الآن كما كانت تستوجبه من قبل. لم يفعل الحياد الإيجابي، ولم تكتب له الإستمرارية بنفس الزخم، بسبب تغيير الظروف والمعطيات، وتحول العالم من عالم ثنائي القطبية إلى عالم أحادي القطبية، وما جره هذا التحول على أمم وشعوب كوكبنا من محن وعذابات وكوارث ما زالت تعاني منها لحد الآن، على الرغم من الوهن الذي أصاب الأحادية القطبية، والهزائم المتوالية التي واجهتها وتواجهها الآن، مما يفسح في المجال لإنبثاق عالم ليس ثنائي القطبية، بل عالم متعدد الأقطاب، وهو ما تشير كل الدلائل والمعطيات إلى حتمية إنبثاقه آجلاً وليس عاجلاً.

في العالم المتعدد الأقطاب المرتقب، نحتاج الحياد الإيجابي، هو ضرورة من أجل أن لا نبدل التبعية الأميركية أو ألأوروبية بتبعية أخرى. فالتابع أي كان من يتبعه ليس حراً، لا سيد نفسه، ولا صاحب قرار.

لقد واجهت سياسة الحياد الإيجابي عداءً سافراً، ومختفيا تحت أقنعة شتى. فالأمبريالية وأذيالها واجهوها بأقصى ما لديهم من قدرات وإمكانات، وعلى نحو مكشوف على الأغلب، في حين واجهها الجانب الآخر (الاتحاد السوفيتي، والمنظومة الإشتراكية) بالتشكيك، مع محاولات لإستثمارها في مجالات شتى. أما الحركة اليسارية، والتابعة، فقد عدت هذه السياسة لا تعدوا كونها سياسة تساوي بين المستعمر الإمبريالي، وبين من يعمل على تقويض الإستعمار والإمبريالية، في حين (وفق رأيها) ما من حياد بين الحق والباطل، لكنها رغم هذا التشكيك وعدم الإرتياح إلا أنها تعاملت معها بجدية وإستثمرتها لحد التبني في بعض الإحيان.

ظهور حركة "عدم الإنحياز" كحركة أستوجب بادئ ذي بدء وجود قادة وطنيين من طراز خاص، غير تابعين، يضعون مصلحة أوطانهم فوق أي إعتبار، وهذا ما يصعب الآن تلمسه، وأن وجد لدى بعض القادة القليلين مثل هذه الوطنية، فإنهم يفتقرون إلى كارزمية أسلافهم القادة الوطنيين العظام، ويصعب عليهم بحكم إفتقاد هذه الكارزما إنتقالهم من حيزهم الوطني المحدود إلى الفضاء العالمي، فتأثيرهم على الأغلب محصور بحيزهم الضيق، المهدد غالباً، هذا التهديد الذي يجعلهم مدافعين، منشغلين بأفشال التآمر، وتلويناته التي لا تنتهي.

****

لو أخذنا العراق مثالاً فإننا سنواجه، سياسيين عراة من رداء الوطنية، لا يحاولون حتى التستر بستار ولو شفاف، الكل بلا إستثناء، إما تابعاً لأميركا التي جاءت بأغلبهم ونصبتهم حكاماً على البلد، أو تابعاً لإيران، أو تركيا، أو السعودية، وحتى دولاً أقل شأناً، لكنها قادرة على التمويل كالإمارات والكويت وقطر.

كعكة العراق تقسم على أتباع هذه الدول، ولا نصيب من الكعكة للعراق وطناً وشعباً.

مصلحة العراق آخر ما يفكر به الأتباع، فمصلحة المتبوع أولاً، ومن ثم مصلحة الحزب أو الجماعة وصولاً إلى مصلحة الفرد، الذي يرى أنه إذا لم ينهب هو فأن سواه، أو غريمه أو منافسه هو من سينهب.

مع الإحتلال عُمل وبأشد ما يمكن من عمل على تسخيف الوطنية والسخرية منها، تكفل بهذا الأمر جماعة تدربوا جيداً في دورات أنشئت على عجل، وروجها إعلام تأسس لهذا الغرض، باتت الوطنية عاراً لا بد من التخلص منه، ودليلا على التحجر وفق تصور بعض أنصاف المثقفين.

****

يشكو العراق منذ زمن من شحة المياه وهو بلاد ما بين النهرين، ولا أحد يجرؤ على الحديث عن السبب، فالصديقة إيران تقطع الروافد المغذية لدجلة وشط العرب بحجة أنها بحاجة للمياه لخدمة مواطنيها الفلاحين، أما تركيا الصديقة فهي تقطع المياه عن النهرين، وبالأخص دجله لأنها تريد إنتاج الكهرباء.

إيران هنا، وكذا تركيا، تفكران بمصالحهما فقط، دون أية مراعاة لمصالح الجيران، وحيث أن الساسة في العراق من التابعين، والتابع كما أسلفنا لا يحق له التفكير إلا بمصلحة المتبوع، فإن ساسة العراق يصمتون عن موت العراق عطشاً، وإذا تحدثوا لاموا الشعب الذي لا يُرشد إستهلاكه من الماء، مثلما لا يرشد إستهلاله من الكهرباء.

وسيبقى الأمر هكذا طالما لم تتغير العقلية السياسية في البلد، وطالما يظل التابع حاكما. كي نتخلص من هذه الحالة نحتاج ساسة لا يتبعون إلا العراق، لا ولاء لهم إلا للعراق، يكلفون من قبل الشعب، ليس لإرضاء هذا أو ذاك من دول الجوار، وإنما لتحقيق مصالح الشعب العراقي والوطن العراقي.

عندما تكون قيادة البلد وطنية غير تابعة، فإنها ستراعي مصالح العراق من دونما تعدي على مصالح الجيران، والجيران الذين يتعاملون مع حكومة عراقية موصوفة بالوطنية حقاً لا قولاً، فإنهم سيراعون مصالح جارهم العراق، وسينسقون معه في كل ما هو مشترك بينهما، من حدود ومياه، ومصالح مشتركة، وأمن مشترك، على قاعدة تبادل المنافع، ستكون العلاقة علاقة جيران يتعاونون لتوطيد مصالح بلدانهم، التي ستكون أقوى وأغنى وأكثر مناعة، وعصية على الإختراق من قبل الأعداء، وبهذا سيكرسون السلام الحقيقي، وسيخلقون فرص التنمية الحقيقية لبلدانهم.