شكرا.. للنظام الدكتاتوري!
نحمد الله، نحن العراقيون الأصلاء، لأننا منذ أن إنطلقت شمعة توقدنا واشعاعنا الفكري والقيمي، نهاية الستينات وبداية السبعينات وما بعدها، ونحن نوقد وهج الشموع، التي تضيء سماء العراق، حتى كتبنا في سفره، ما يعلي شأن كل طامح الى بلوغ الشمس ومنازل الكبرياء.
كان النظام الدكتاتوري يمنحنا القدرة على التجدد والعطاء بلا حدود، وهو من يعيد فينا شحن الروح الوطنية والعروبية، لتزدهي بها أرض العروبة وكل طامح الى مجد أو رفعة، وما أن تحدث أية منازلة مع من يتربصون بالعراق وشعبه وأمته الدوائر، الا وكان العراقيون حاضرين، شامخين رافعي الرؤوس الى حيث تصهل خيل الكرامة وترتفع رايات العز، مهابة، تعانقها شمس الكبرياء.
ونحمد الله لأن النظام الدكتاتوري، كما يصفه سياسيو الزمن الرديء، هو من أشاع فينا تلك القيم، وهو من كرمنا مرات عدة، بأنواط الشجاعة وأنواط العلم وأنواط الإبداع، وهو من منحنا تيجان الفخر، وهكذا كان العراق راية عروبية خفاقة، تتصدر الصفوف، عندما تدلهم الخطب، فيكون رجالات العراق حاضرين في المقدمة في كل ميدان.
وما أن أفل نجم النظام الدكتاتوري، حتى غابت الشمس عن سماء العراق، وتصدعت قيم الكون، واختلت موازين الحياة، وانقلبت الارض عاليها على سافلها، حتى لعن العراقيون اقدارهم التي هوت بهم الى قاع لا يرتضيه، هؤلاء الابطال الميامين، الذين رفعوا إسم بلدهم شامخا في الأعالي، ولهم القدح المعلى عند رب السموات، يوم أقاموا دولة العدل والمواطنة واحترموا حقوق الانسان، وعلا الفكر والأدب والفلسفة ومختلف علوم الابداع والتوهج العلمي في زمنهم، وبنوا معالم شموخ وتقدم ونهوض ومفاخر عقول مبدعة وسواعد بنت عراقا قويا مهابا محترما، ما تزال الأجيال تذكرها بالخير ومنازل الرفعة والسمو، فكانوا مفخرة أمة،وشموخ بلد ركبت سفينة إنطلاقتها، غير هيابة، وهي واثقة من نفسها، أنها دكت ركائز في أعماق الأرض، ليس بمقدور من يكون أن يقطع جذر تلك الشجرة الطيبة، الوارفة الظلال.
لم يكن العراقيون كشعب طامعين في أي بلد عربي، لا العراق ولا السعودية، ولا أي بلد عربي آخر، بل أن "غزو الكويت"، من وجهة نظر أغلب العراقيين، لم يكن مبررا بأي حال من الأحوال، وكان "غلطة العمر" التي لا ينبغي أن تحدث، وهو "الخطيئة الكبرى" الوحيدة التي لم يقدر النظام الدكتاتوري عواقبها، وما أحدثته من إنتكاسات كبرى، عادت على العراق بالويل والثبور وبحار من ألاحزان والنكبات، ولم يكن للعراقيين في تلك الحرب التي شنت على الشقيقة الكويت ناقة ولا جمل، وأسميها على الدوام بأنها "العرس الأكشر" الذي كسر ظهر العراقيين و"طيح حظهم" لسنوات.. بل لعقود!
أتذكر انه في عام 1977، كنا قد زرنا الكويت، يوم كنا طلبة في قسم الإعلام بكلية الاداب جامعة بغداد، وقد كنا على وشك التخرج، وهو اليوم الوحيد الذي شاهدت فيه الكويت، ولم أرها من بعد تلك الزيارة. وقد إستقبلونا بحفاوة بالغة، وغمرونا بفيض كرمهم اليعربي، بدءا من الحدود العراقية الكويتية، حيث كنا بسيارة باص عراقية، ثم نقلتنا باصات كويتية يابانية حديثة، وأسكنونا في منازل تليق بنا، وأذكر إسمها الصليبخات أو قريب من هذا الإسم. وبقينا لاكثر من إسبوع من عشرات الطلبة العراقيين والعرب، وقد زرنا كل مواقع وسائل الإعلام والصحافة الكويتية في وقتها، بما فيها صحف السياسة والتقينا برئيس تحريرها الأستاذ أحمد الجار الله وهو في ريعان شبابه، ثم زرنا صحف القبس والوطن والرأي العام والتقينا بمسؤوليها وزرنا مؤسسة الإذاعة والتلفزيون، واطلعنا على مجريات التقدم الكبير الذي تزدهي به الصحافة الكويتية عموما، في أيام زهوها، واقام لنا السفير العراقي أنذاك الأستاذ ثامر رزوقي، الذي أصبح فيما بعد وزيرا للمالية، حفلا كبيرا في فندق شيراتون الكويت الشهير، بحضور كبار المسؤولين الكويتيين، وكان الحفل الكبير مصدر إعتزازنا وفخرنا، لأن بلدا عربيا على مقربة منا، وهو بهذه الدرجة من التقدم الصحفي المتسارع، وهو من أحتفى بنا، وكرمنا كبار مسؤوليهم، وبخاصة وكيل وزير الاعلام الكويتي في ذلك الوقت، وودعنا بمثل ما استقبلنا به من حفاوة، وكرم ضيافة، وما زلت أذكر ان تلك الأيام كانت من أجمل أيام العمر، كونها اول سفرة الى بلد عربي، وما زلنا طلبة في جامعة بغداد، ونروم التخرج بعد شهور قليلة، ولم نر الكويت منذ ذلك التاريخ، وما أن حدثت فجيعة الغزو عام 1990، حتى عديناها عملا ارتجاليا غير مبرر لا يمكن قبوله بأي حال من الأحوال.
تمنينا على إخواتنا العرب، ممن تنكروا لجميل العراق، في زمن كان العراق يدافع عنهم بالنيابة، وكان يقول لهم أن العراق هو مرتكز التوازن في الكرة الارضية، وهو مصدر استقراركم وأمنكم وملهم قيمكم ورافع رؤوس كرامتكم، وهو من يحفظ لكم الأرض والعرض ويصونها من الإمتهان، ولكن خاب ظن العراقيين فيهم بعد إن إصطف كثير منهم مع ركب الاعداء، ومن أرادوا بالعراق شرا، وها هو مصيرهم الذي لا يحسد عليه، بعد إن غابت شمس العراق، ولم يعد بمقدورهم أن يصدوا عنهم وعن دولهم، تلك الريح الصرصر العاتية التي مزقت شملهم وعاثت في ديارهم خرابا وفسادا وتدميرا وقتلا، وغابت الهوية العربية وودعت شمس الكرامة ضوعها العطر، بعد إن تهاوى العراق، يوم تجمعت عليه أكثر من 33 دولة ما بين كبرى وأقزام تحالفوا معهم، وكانوا يظنون أنهم يطفئون نور الله بأفواههم، ولكن الله متم نوره ولو كره الكافرون!
شكرا للنظام الدكتاتوري، الذي علمنا أن لا نستجدي التكريم من أحد، ومن يكرمنا هو الله أولا ومن ثم شعبنا وأقدارنا وسمعتنا الطيبة وعلمنا الوفير الغزير الذي إفترش الأرض شعاعا وسطع نورا وهاجة، وهو من نتفاخر به بين أمم الدنيا. أما من إكتنزوا الثروات بآلاف المليارات وبنوا ناطحات سحاب ومعالم تقدم، فهم أنفسهم من يتحسرون على تلك الأيام، التي كانوا يخرجون فيها الى النزهة وهم مرفوعو الرؤوس، لأنهم يدركون في قرارة أنفسهم، أن العراق هو من كان ظهرهم وهو سندهم وحاميهم، أمام موجات الشر التي تحيط بهم من كل جانب، وما إن هوى العراق، يوم خذلوه، حتى تهاوت قلاعهم وانتكست راياتهم، وراحوا يستجدون كل وضيع وعديم خلق، عله يكون بمقدورهم أن يمشوا لسويعات دون أن تنالهم مهانة او يسحلهم متسول، ضاق ذرعا بثروتهم، وهو لايرى منهم الا دراهم بخسة لا تسد جوع، ولا تغني عن شمس كرامة، ومع هذا بقي العراقيون وكثير من العرب الشرفاء يترحمون على النظام الدكتاتوري، بعد إن تيقنوا أن الكرامة العربية قد غاب شمسها، وحل الظلام على أرض المعمورة، بعد أن أفل نجم العراق، ولم يجد من يبحث عن وطن آمن، الا وهو مشرد تائه لا يدري به أن تلف به أصقاع الارض، وهو يرى الذلة والمهانة تلفح وجهه، ولا يجد من يسد رمقه أو يشم رائحة قيم أو وطن مغمس بالكرامة لكي يكون بمقدوره أن يرفع رأسه الى علياء السماء!