شوقي كما رآه شاعر الأطلال وشاعر الجندول

'امير الشعراء' تميز بكثير من صفات الشاعر الكامل، ولو مدَّ الله في أجله، واستمر في المنهج الذي انتهجه أخيرًا لبلغ مدًى لا يُجارَى.

شاعران من مدرسة أبوللو، لم ينكرا أو يخفيا إعجابهما ودينهما لأمير الشعراء أحمد شوقي، هما: إبراهيم ناجي وعلي محمود طه.

قال شاعر "الجندول" عن شوقي إنه شاعرٌ نبَّه الجيل باسمه، وعقد شعره على جبين مصر تاج الزعامة في الشعوب العربية، وكانت قصائده بالأمس القريب متطلع أدباء الشرق، ومرتقب كتابه وشعرائه.

شاعرٌ تهيَّأ له من أسباب الشعر، ما لم يتهيأ لغيره، وحَبَتْه العناياتُ ما لم تَحبُ به شاعرا عربيا قبله من مواهب فنيه خصَّه الله بها، وحظوظ سعيدة مقدرة سمت به إلى منزلة سامقة المجد، وذروة شاهقة من الشهرة والصيت الذائع.

ولقد عَبَرَ شاعرنا محيط الحياة، بين عبريْ الميلاد والحياة، محوطًا بإعجاب الكثيرين من الخاصة والعامة، وشهد بعينه تألق نجمه في سماء البيان، وهو ما لم يُتح لأفذاذ الأدباء والفنانين في هذا الشرق العريق في أدبه وفنه. وبلغ ببعض الصحف في مصر أن خصَّت كل قصيدة يختصها بنشرها بمائة من الجنيهات، وذلك ما لم نسمع به أيضا من عهد ملوك العرب حتى في أوساط الغرب الأدبية، وهي التي لم تضن على العلم والأدب والفن بالجليل من التقدير الأدبي أو المادي.

ولقد عجَّل القضاء بشوقي إلى نهاية كل حي، وهو لا يزال ينفح الأدب بنفحات شعره، وحطم الموت يراعه، وهو ممسك بها بين قرطاسه ومحبرته في فترة مرض غير رفيق وضعف شيخوخة ما كدَّرا من صفاء تلك القريحة اللماحة، ولا خدشا مرآة ذلك الذهن المشرق الوقَّاد.

وبعد موته، راح الشاعر علي محمود طه يسائل نفسه: هل أدَّى شوقي رسالة الشاعر إلى عصره؟

يقول: ذاك سؤال أحاول الآن أن أضع جوابه في حيرة رجعت بأسبابها إلى قصر الزمن الذي مضى على انقطاعه عنا ونحن الناس نتأثر بحياة الحي الزائل، ولو إلى حين، وقد تلابسنا من حياته الماضية القريبة أحوال يكون لها في أحاديثنا وكتاباتنا أثر لا نفطن إليه اليوم، وقد لا نقر أنفسنا في الغد على ما أصدرناه من أحكام واستسغناه من آراء.

ورجال الأدب في مصر لا يزالون في مضطربِ أفكار لا تعرف هديها إلى ما تصبو إليه من المثل العليا، ولا يزال معترك الجدل حامي الوطيس بين دعاة المدرستين الحديثة والقديمة، بل بين أنصار المدرسة الواحدة في تعريف مقاييس الشعر وتكييف صوره وتحديد ألوانه.

بيد أني أدفع برأي غير فطيرٍ نماه شعور برئ أقرت أحكامه دراسةٌ ترجع إلى أدب لا يتعصب لقديم ولا لجديد.

ويرى شاعر "الجندول" أن شوقي – رحمه الله – كان أقدر شعراء عصره، فما ظفر بمعنى جيد إلا وأفصح عنه بألفاظ مختارة تقع في الأذن موقع النغم الساحر والصوت الرخيم. فإذا ما كان المعنى مبتكرًا رائعًا فقد نفذ بأنغامه وموسيقية بيانه إلى قرارات النفوس وشغاف القلوب، وهذا ما لم يتوفر في شعره كثيرا.

وديباحة شوقي أشرق ما تكون حتى لكأنك تقرأ المختار لفحول شعراء الجاهلية والإسلام، وأسلوبه جامع لمحاسن الأساليب الشعرية البديعة، وإن لم يبلغ شأو البارودي في قوة الحبك ودقة الأحكام.

يترسل شعر شوقي في سبعة جداول شعرية: شعر المديح والرثاء، وشعر الحب، والشعر الوصفي، والشعر الاجتماعي، والشعر التاريخي، والشعر الديني، والشعر القصصي.

فأما شعر المديح، فليس فيه ما هو جدير بالدراسة أو النقد. أما الرثاء فقد أجاد فيه شوقي وأبدع، بل لا أعدو الحقيقة إذا قلت إنه المتفرد فيه منذ كان شعرٌ عربيٌّ إلى اليوم. أما شعر الحب، فالحق أن شوقي بعيد عن الحب، بعد الباطل عن الحق، وليس في بعضه إلا القليل النادر. أما شعر الوصف فبعضه شعر تجديد والبعض الآخر شعر تقليد، تغلب فيه الصنعة ويبدو التكلف واضحا جليا.

أما الشعر الاجتماعي، فتفوقه فيهما تفوقه في شعر الرثاء. أما قصائده في التاريخ فلا أرى شاعرًا لحق غباره فيها، وقصيدته في حوادث النيل، أو سينيته الأندلسية، أو قصيدة النيل أو غيرها، تتحدّى الزمن بخلودها.

أما الشعر الديني، فقد كان لشوقي فيه نفحات طيبات وآيات رائعات، وأرى أنه بزَّ الأباصيري في قصيدته "نهج البردة"، وله في ميلاد النبي (صلى الله عليه وسلم) قصيدة رائعة المعاني تفيض بموسيقيتها ومعانيها جلالا وجمالا وزهادةً وتصوفًا.

وأما شعره القصصي، فإني لا أغمط شوقي فضل نبوغه في هذا المضمار، ولا أنقص من عظيم جهده، وكفي أنه في طليعة من وضعوا القصة العربية شعرًا، وفي مقدمة من أخرجوا الرواية من سفر التاريخ.

ويؤكد علي محمود طه أن شوقي قد أدَّى رسالة الشاعر إلى عصره بقدر ما هيأه الله، وأتاح له ذكاؤه وأدبه وعلمه وشاعريته. فما لنا إذن نستعدي على شوقي الأقلام، وليس من شوقي كثيرٌ لدينا.

أما شاعر "الأطلال" فقد وصف شوقي بإنه موسيقى. وقال: ذكرت إحدى الجرائد الفرنسية مقارنة بين شوقي وبول فاليري شاعر فرنسا الأكبر في العصر الحاضر، فذكرت هذه الموسيقية، وهي على حق. إن شوقي وفاليري اتفقا في هذه الصفة، ولا أعرف شاعرًا سبقهما في ذلك غير بودلير.

هذه الموسيقية هي البراعة في اختيار اللفظ، وانسجامه ليؤدي المعنى المطلوب. والموسيقية من حيث إنها تحتاج إلى اللفظ والصياغة والانسجام، فهي إذًا في حاجة إلى الإلمام العظيم باللغة، هذا إلى ذوق خاص لا يمكن اكتسابه بسهولة وإلى أذن تُحسن الاستماع وتمييز الأنغام.

ولا بدع أنه ليس من موسيقية في اللفظ كموسيقية القرآن.

وقال الشاعر إبراهيم ناجي إن شوقي كان على جانب كبير من قوة الإقناع، وإذا اقتنع هو نفسه، وراح يدافع عن قضية هي جزء من حياته أو حياة أمته، وراح يصف شيئا له في نفسه مكانة، فإنه أحيانا يبلغ الذروة، ويصعدك معها، إلى حيث تقتنع بما رأى، وتؤمن بما حدثك عنه.

أما الخيال، فهو الناحية التي قصر فيها شوقي، وصوره الشعرية قليلة، ونعني بذلك أنك تقرأ قطعة للشاعر فلا تملك إلا أن ترى الشيء مرسومًا أمامك بوضوح مجسمًا قويًّا بارزًا. وشعر شوقي الأخير موفق في ذلك، ظاهر في شعره المسرحي.

إن شوقي تميز بكثير من صفات الشاعر الكامل، ولو مدَّ الله في أجله، واستمر في المنهج الذي انتهجه أخيرًا لبلغ مدًى لا يُجارَى.

وقال شاعر الأطلال في رثاء شوقي:

ما كنت إلاَّ أمةً ذهَبت ** والعبقريَّة أمَّةُ الأمَم

أو شُعلة أبصارنا خلبت ** ومنارة نُصبَت على عَلَمِ

يا راقداً قد بات في مَثوىً ** بَعُدَت به الدُّنيا وما بَعُدَا

أين النجوم أصوغ ما أهوى ** شعراً كشعرك خالداً أبدَا؟

لكنَّ حزني لو علمت به ** لم يُبقِ لي صبراً ولا جُهدَا