صفاقس ليست بوابة عبور إلى أوروبا
تونس بلد صغير. صنع منه التاريخ حدثا. محمد البوعزيزي هو ابن مدينة سيدي بو زيد. وهو القتيل الأول الذي ألهمت النار التي أشعلها بنفسه لهبا أحرق الأخضر واليابس سماه الآخرون "الربيع العربي". وفي عمومه لم يكن ربيعا ولا عربيا إلا في المعنى الجغرافي.
كلما ذَكر الربيع العربي ذُكرت تونس وكلما ذُكرت تونس تقدم البوعزيزي إلى الواجهة التي هي ليست إلا هشيما يابسا. فتونس وعبر أكثر من عشر سنوات خسرت الكثير من سمعتها على المستويات السياسية والثقافية والسياحية والاقتصادية. صار المرء يضع يده على قلبه كلما سمع أن هناك انتخابات في تونس. ذلك لأن جمهور الإسلام السياسي ليس قليلا هناك. وهو جمهور هدم لا يرى في الفقر مثلبة ولا في الكسل عارا مادام الفقهاء قد نجحوا في محو ذاكرته البطولية وملأوها بأكياس القمامة من المرويات التي تحث على الجهل والكراهية والفقر.
تغيرت تونس كثيرا عبر السنوات التي تفصلنا عن الحادث المروع الذي شهدته سيدي بو زيد. في المقدمة يقف سوء الاوضاع الاقتصادية الذي كان واحدا من أهم أسبابه هيمنة حركة النهضة على الدولة الجديدة التي صار الهواة الفاسدون يديرون شؤونها. ازداد الفقراء فقرا وكثرت أعداد العاطلين عن العمل ولم تعد تونس بحجم ما عرفناه عنها واجهة سياحية تبشر بالكثير من الأمل.
تراجع القطاع الزراعي فيها بحيث صار السؤال عن موقعها بين البلدان المنتجة للزيتون وزيته أمرا مسموحا به وسيكون اللقب الأخضر الذي تربعت على عرشه محل شك في الأعوام المقبلة. تونس الخضراء لم تعد قادرة على إطعام أهلها وليس انضمامها إلى حفلة الدول التي تعاني شعوبها من شحة في الخبز سوى النذير بإمكانية وقوع الأسوأ في أية لحظة. وإذا كانت حكومتها تفاوض صندوق النقد الدولي على قرض بقيمة تقل عن ملياري دولار فإنها ستكون عاجزة عن تعويض ما خسرته تونس من مليارات جراء تباطؤ وتلكؤ العمل في قطاعي السياحة والفلاحة.
ما جرى في صفاقس وهي عاصمة الجنوب والعاصمة الاقتصادية كما يُقال من اضطرابات كان سببها زيادة أعداد المهاجرين الأفارقة غير الشرعيين هو مؤشر خطير على بداية مرحلة جديدة تكون تونس فيها محل تجاذبات دولية. فالمطلوب من تونس أن تحترم حقوق الإنسان والمطلوب من شعبها أن يبتعد عن السلوك الذي ينطوي على كراهية وفي الوقت نفسه المطلوب من تونس أن تمنع أولئك المهاجرين من محاولة الاقتراب من اليابسة الأوروبية من خلال الموانئ التونسية وصفاقس في مقدمتها.
لا يستوي موقف صندوق النقد الدولي المتردد مع المطالبة الأوروبية بأن تقوم تونس بدور الحارس لبوابتها. وإذا كان على تونس أن تقوم بذلك فما الذي تفعله بآلاف الأفارقة الذين يتدفقون على مدنها يوميا؟ هل صار على صفاقس مثلا أن تعيد النظر في تركيبتها السكانية احتراما لحقوق الإنسان؟ كان الرئيس التونسي حين علق على المسألة مربكا ما بين أن يعترف بأن بلاده لا تقوى على القيام بما أوكل إليها من مهمة مجانية وبين أن يلقي خطابا في التسامح يسعى من خلاله إلى شراء رضا الآخرين، بالرغم من أن الأحوال في بلاده تقول غير ذلك.
ليس من الحكمة أن تتستر الحكومة التونسية على المشكلات التي تنتج عن اعتبار المدن التونسية بوابات للعبور إلى أوروبا. كان عليها أن تضع على طاولة الأوروبيين تلك الورقة الضاغطة لتكون في منأى عن اللوم المترفع. قبل أكثر من سنة رأيت مشاهد لا تُسر في منطقة البحيرة التي هي جزء من العاصمة التونسية. نصب المهاجرون الأفارقة خيامهم في شوارع تلك المنطقة التي يُفترض أنها راقية وهو ما صار يتكرر في مختلف مدن الساحل التونسي. هل هم مهاجرون أم مستوطنون؟
حين قاموا قبل أيام بقتل مواطن تونسي في صفاقس فإن ذلك معناه أنهم انتقلوا إلى مرحلة العصابات المنظمة التي تشير إلى إقامة طويلة الأمد. وبهذا تكون صفاقس قد أصبحت مدينة غير آمنة. وهكذا تكون الدائرة قد انغلقت. صفاقس التي تعاني من الفقر والبطالة والاهمال يُضاف إلى أسباب معاناتها سببا جديد هو الخوف من الأفارقة. كان على الحكومة التونسية أن تختار وفدا من أبناء صفاقس ليتفاوض مع الاتحاد لأوروبي من أجل البحث عن حل للمشكلة؟
فصفاقس ليست بوابة عبور. إنها مدينة عيش تاريخي.