صفقة القرن... غير الموجودة!

لم تعد من حاجة الى صفقة القرن. ثمّة حاجة الى انقلاب في نمط التفكير يأخذ في الاعتبار ان مفاعيل الزلزال العراقي الذي اعطى في العام 2003 دفعا جديدا للمشروع التوسعي الايراني لم تنته بعد.

هل هناك شيء اسمه صفقة القرن؟ لا وجود لمثل هذه الصفقة التي تستخدم ايران وادواتها الكلام عنها لتخوين العرب والقول انّهم تخلوا عن القضية الفلسطينية والفلسطينيين. هناك أفكار عامة قد تنتج صفقة ما لا اكثر. امّا الواقع، فيتمثّل في انّ الفلسطينيين انفسهم تخلوا عن قضيّتهم باكرا عندما كان العالم كلّه يسعى الى الخروج بتسوية ما تلبي مطالب شعب موجود على الخريطة السياسية للشرق الاوسط ولا يستطيع احد الغاءه. كانت بداية التخلي الفلسطيني عن القضيّة عندما قبلت منظمة التحرير ان تكون بمثابة شركة مساهمة، أي ان تكون لأكثر من دولة عربية واحدة حصّة صغيرة او كبيرة في قيادة المنظمة في ظلّ رجل اسمه ياسر عرفات اعتقد انّ في استطاعته إدارة الشركة واللعب على كل التناقضات الإقليمية والدولية انطلاقا من عمّان ثمّ من بيروت.

لم يستطع ياسر عرفات، الذي يظلّ الزعيم التاريخي للشعب الفلسطيني، الخروج من ازقة بيروت الى رحاب العالم الواسعة، الّا بعد انتقاله الى تونس. في تونس تحرّر "أبو عمّار" اخيرا من قبضة النظام السوري ومن عقدة الأرض التي كانت "جمهورية الفاكهاني" افضل تعبير عنها. تحرّر في تونس خصوصا من مقولة حافظ الأسد المشهورة وهي انّ "القرار الفلسطيني المستقلّ بدعة".

بين صيف 1982، تاريخ خروج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان والكلام الحالي عن صفقة القرن في ظلّ نقل السفارة الاميركية الى القدس، ارتكبت القيادة الفلسطينية كمّية لا تحصى من الأخطاء. أدت هذه الأخطاء الى الوصول الى الوضع الراهن الذي لم تعد فيه فلسطين، الّا بالنسبة الى المتاجرين بها وبشعبها، قضية العرب الاولى. لا بدّ في طبيعة الحال من استثناء الأردن وذلك لسبب في غاية البساطة يعود الى انّ لديه مصلحة ذات طابع حيوي في قيام الدولة الفلسطينية المستقلّة وعاصمتها القدس الشرقية. وهذا عائد بشكل خاص الى طبيعة التحديات التي تواجه المملكة الهاشمية. في مقدّم هذه التحديات يأتي الوضع الاقتصادي، فضلا عن التركيبة السكانية للبلد.

لا يعني الكلام عن الأخطاء التي لا تحصى للقيادة الفلسطينية تجاهل اتفاق أوسلو بحسناته وسيئاته.  كان الاتفاق خطوة أولى على طريق صناعة الحلم الفلسطيني وتحويله الى حقيقة على ارض فلسطين. يمكن انتقاد أوسلو والحديث عن ثغراته وتفنيدها طويلا، لكنّه كان افضل الممكن في ظلّ الظروف الإقليمية والدولية. كان اتفاقا يمكن البناء عليه. امكن التوصل الى اتفاق أوسلو في العام 1993 على الرغم من الخطأ المريع الذي ارتكبه ياسر عرفات عندما لم يتخذ في الثاني من آب – أغسطس 1990 موقفا لا لبس فيه من المغامرة المجنونة التي اقدم عليها صدّام حسين باحتلاله الكويت. اذا اخذنا في الاعتبار الموقف المستغرب كلّيا لـ"أبو عمار" من احتلال الكويت، يمكن اعتبار أوسلو إنجازا بحدّ ذاته، خصوصا انّه فتح للفلسطينيين أبواب البيت الأبيض. حصل ذلك للمرّة الاولى منذ قيام منظمة التحرير الفلسطينية في ستينات القرن الماضي.

في ظلّ التدهور المستمرّ للوضع الفلسطيني، وهو تدهور لا يحد منه سوى صمود شعب متمسّك بهويته الوطنية التي يدافع عنها يوميا، جاء الكلام عن صفقة القرن. ليس الكلام عن صفقة القرن سوى تتويج لمرحلة جديدة يصعب على كثيرين، من الذين تربوا على شعارات مرتبطة بتحرير فلسطين و"القدس لنا"، استيعاب مدى خطورتها. تكمن خطورة هذه المرحلة في طبيعة التحديات الجديدة التي تواجه دول المنطقة من جهة ووجود إدارة أميركية تؤمن ايمانا عميقا بأهمّية تجاوز العقدة الفلسطينية من جهة اخرى. الأكيد ان مرور عملية نقل السفارة الى القدس بسلام عزّز موقف القائلين ان لا داعي حتّى لصفقة القرن ولا حاجة الى طرح أفكار أميركية على المعنيين بإيجاد تسوية تقوم على مفاهيم قديمة مرتبطة بالقدس وحدود 1967 وقرارات الشرعية الدولية مثل القرار الرقم 242.  

ربّما كانت هناك خطوط عريضة لصفقة القرن طرحت في بداية عهد دونالد ترامب. الآن لم يعد هناك من وجود لمثل هذه الخطوط بمقدار ما هناك تفكير في كيفية وضع القضيّة الفلسطينية بين مزدوجين، خصوصا انّه بات مفروضا على معظم العرب مواجهة المشروع التوسّعي الايراني. بسبب وجود هذا المشروع، صار العراق نفسه في عداد الدول العربية التي لم يعد معروفا كيف سيكون مستقبلها. ما ينطبق على العراق، ينطبق على سوريا أيضا. ليست القدس وحدها التي ضاعت. ضاعت أيضا بغداد والبصرة والموصل وضاعت دمشق وحلب وحمص وحماة. كذلك، ضاعت صنعاء التي صار المسؤولون الايرانيون يضعونها في مصاف العواصم العربية التي تتحكّم بها طهران!

هناك من يريد الكلام بطريقة كلاسيكية عن فلسطين في ظلّ معطيات إقليمية جديدة لا علاقة لها بالماضي. لعلّ الدليل الأبرز على ذلك ان لا وجود لقيادة فلسطينية تمتلك حدّا ادنى من القدرة على التعاطي مع ما يدور على الأرض واستيعاب المتغيرات. هؤلاء الذين يتحدثون عن فلسطين بلغة الماضي لا يريدون الاعتراف بان المنطقة صارت منطقة اخرى وان ابرز ما تغيّر فيها انّ ليس هناك من هو مستعجل على ايّ شيء ذي علاقة ما من قريب او بعيد بفلسطين.

مرّة أخرى، يبدو الأردن مهتما وحده وبصدق، لاسباب خاصة به، بعدم ترك التسوية في مهبّ الريح والتلهي بالكلام عن صفقة لا وجود لها الّا في اذهان الذين يريدون المتاجرة بالفلسطينيين وقضيتهم. هؤلاء التجار اخترعوا "يوم القدس". ما الذي حققوه للقدس بعد كلّ هذه الأعوام التي شهدت تدميرا ممنهجا لكلّ مدينة عربية ذات معنى في منطقة المشرق؟

لم تعد من حاجة الى صفقة القرن. ثمّة حاجة الى انقلاب في نمط التفكير يأخذ في الاعتبار ان مفاعيل الزلزال العراقي الذي اعطى في العام 2003 دفعا جديدا للمشروع التوسعي الايراني لم تنته بعد. هناك مفاعيل هذا الزلزال وهناك إدارة في واشنطن من نوع مختلف تماما. أقدمت هذه الإدارة على الانسحاب من الاتفاق في شأن الملفّ النووي الايراني. التقى دونالد ترامب في سنغافورة الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ اون الباحث عن موقع جديد لبلاده خارج لائحة الدول المارقة التي لم يكن لديها ما تصدره الى الخارج غير تكنولوجيا الصواريخ والى الداخل الكوري غير البؤس والجوع والحرمان...

من لا يتكيّف مع ما يشهده العالم والمنطقة من تغييرات ينتهي في وضع من يدور على نفسه. صارت ايران، بعد تخلي اميركا عن الاتفاق في شأن ملفّها النووي تدور على نفسها. كانت تعتقد قبل ذلك ان العالم كلّه يدور حولها.

لا عيب في رفض السقوط في فخّ عقدة القضيّة الفلسطينية، وهي قضيّة ستبقى حيّة ما دام الشعب الفلسطيني حيّا. وهذا ما تبدو دولة مثل إسرائيل عاجزة عن ادراكه. العيب في توهّم ان هناك صفقة اسمها صفقة القرن وانّ كل الجهود يجب ان تنصبّ على مواجهتها إرضاء للمتاجرين بالقضية الفلسطينية من المزايدين على العرب في الوطنية في حين انّ استثمارهم الوحيد هو في كلّ ما من شأنه تفتيت دول المنطقة الواحدة تلو الأخرى عن طريق سلاح، ولا اخطر، اسمه سلاح الاستثمار في اثارة الغرائز المذهبية.