طه وادي: العقاد ناقد غير أخلاقي وشوقي ظاهرة فنية

إن شوقي رغم أنه كان شاعرًا إحيائيًّا، فإنه يتجاوز هذه الإيحائية – كثيرًا – ليصبح شاعرًا إنسانيًّا عالميًّا.

يرى الناقد الدكتور طه وادي أن العقاد يذهب في نهاية دارسته لمسرحية "قمبيز" إلى مدى غير أخلاقي في النقد، فيقول: "وقد أبى شوقي إلا أن يفرغ جميع نقائصه في رواية قمبيز التي لم نشهد له رواية قبلها على مسرح التمثيل. ففيها كل عيوب ذهنه وكل عيوب خُلقه..".

وهكذا تجاوز بعض النقاد – إزاء شوقي – أدبيات النقد، وهاجموا الرجل وشعره هجومًا غير مبرر وغير مفهوم وغير إنساني، إذ يبدو أن الخصومة الأدبية، لا تقل في ضراوتها – أحيانا – عن الخصومة السياسية.

ويؤكد وادي في الطبعة الخامسة من كتابه "شعر شوقي الغنائي والمسرحي" أن تراث شوقي بروافده المتعددة، يعكس فلسفة الإنسان العربي في العصر الحديث، ومحاولته الدائبة لإحداث مصالحة أيديولوجية بين تراثه القديم وثقافة الغرب الجديدة الوافدة. ويشتمل تراث شوقي على الشعر الغنائي، والمسرحي، والرواية، والمقامة، والمقالة أو النثر الفني.

لقد جاء شوقي "فملأ الدنيا وشغل الناس" كما المتنبي، فلا غرو والتماثل شديد بين الشاعرين أن نقول إن شوقي متنبي العصر الحديث. ولم يكن غريبًا أن يكون شوقي وحده – وليس غيره – المفجِّر لكثير من قضايا النقد والأدب واللغة والبلاغة والدرس الأسلوبي، إنه شوقي العظيم شاعر النهضة، والمعبر – بصدق – عن روح الأمة. وتراثه له تأثيرات بعيدة المدى منذ ظهر حتى اليوم، لا في مصر وحدها، بل في أرجاء وطننا العربي كله.

وقد كان الحسُّ التاريخي بمصر والعروبة يقظًا في وجدان شوقي بدرجة قوية، فمضى يكرره في أكثر من قصيدة ومناسبة.

وفيما اصطلح عليه بشعر المعارضات، يوضح طه وادي أن شوقي عارض سبع قصائد للمتنبي معارضة صريحة مباشرة، وهذا عدد كبير، يؤكد حرص أمير الشعراء على تتبع أستاذه، واستلهام معظم سمات شعره. وقد كان شوقي واسع الدراية، يقظ الحافظة بالنسبة لتراث المتنبي وأسراره الفنية، وهذا ما يؤكده ديوانه بشكل واضح.

وهذا التأثر القوي بالمتنبي ليس غريبًا بالنسبة إلى شوقي، الذي حمل ديوان المتنبي معه في أثناء بعثته إلى فرنسا، حيث كان يقرأه هناك، ويتشرب – في أناة وحرص – أهم أسراره الفنية، أي أن شوقي في فرنسا لم تشغله الثقافة الأوروبية عن مصاحبة أستاذه العظيم المتنبي. وقد صرح في أواخر حياته بأنه يفضل المتنبي ومجنون ليلى وجميل على "الفرد دي موسيه" و"لامارتين".

أيضا تأثر شوقي تأثرًا واضحًا بشعر أبي نواس – الحسن بن هانئ، ولا سيما في مجال تصوير الخمر، وما يتصل بمجالسها من لهو وظرف ومحاولة تبرير شربها، وعدم طاعة اللوَّام فيها. وإصرار شوقي على تسمية بيته "كرمة ابن هانئ" تأكيد لوعيه بالصلات الإنسانية والفنية بينهما.

وهناك أبوعبادة البحتري الذي يعد من أساتذة شوقي أيضًا.

وهناك آخرون عارضهم شوقي وتأثر بهم مثل: الإمام محمد البوصيري، وأبي تمام، وابن نبيه المصري (أحد شعراء الدولة الأيوبية)، وأبوالعلاء المعري، والشريف الرضي، وابن رزيق، والشيخ الرئيس ابن سينا، وابن الخطيب الأندلسي، وابن زيدون، والحصري القيرواني، وأبوالبقاء الرندي، وجميل بن معمر (جميل بثينة) وقيس بن الملوح (مجنون ليلى)، والحارث بن حلزة اليشكري (من شعراء المعلقات السبع)، ومحمود سامي البارودي.

إن شعر المعارضة عند شوقي يؤكد – بصورة واضحة – علاقته الوثقى بالتراث، لا من خلال من سبق ذكرهم فحسب، بل إن علاقته بالتراث أرحب وأعمق، وهي دليل صدق على مدى علاقة شعره القوية بالتراث العربي القديم.

ويشير طه وادي إلى أن الإضافة الجديدة التي يقدمها شوقي لتاريخ المسرح العربي، هي المسرحية الشعرية. وهذا يعني بداية التزاوج الحقيقي بين "المسرحية" كفن له أدواته الخاصة ومتطلباته النوعية المحددة، وبين "الأدب" باعتباره إطارًا لتقديم المادة الأدبية "الممسرحة" أي أن شوقي جعل المسرحية "أدبًا" بعد أن كانت مجرد تسلية وترفيه، لذلك فإن مسرحيات شوقي – مهما اختلفت وجهات النظر في الحكم عليها – تعني النضوج بالمحاولات السابقة لتطويع الشعر العربي للمسرح ابتداءً من خليل اليازجي، كما تعني البداية الحقيقية لاعتماد المسرح على نص يحمل سمات الأدب ما يبرر درسه في إطار "فنون الكلمة". ومسرح شوقي من هذه الناحية يسبق مسرح توفيق الحكيم الأدبي.

لقد أحس شوقي في سنيه الأخيرة أنه قدم كل ما يستطيع من خلال القصيدة الغنائية، ومن ثم لم يكن أمامه إلا المسرح ليقدم من خلاله الجديد الذي كان يريد أن يسهم به، بالإضافة إلى أن المجتمع المصري قد تغيرت ملامحه الاجتماعية بعد ظهور الطبقة الوسطى (البرجوازية) التي تعد ثورة 1919 تعبيرًا عن نضجها الاجتماعي ووضوح فلسفاتها الفكرية والجمالية، فقدّر لمسرح شوقي النجاح حين قُدم، بل وما زال يحمل إمكانية النجاح إذا أُحسن استغلال الجانب الغنائي فيه.

وأثناء حديثه عن مسرحية "علي بك الكبير أو دولة المماليك" يقول الناقد د. طه وادي إن محمد أبوالذهب استطاع أن ينتزع الملك من علي بك الكبير، ويتعرف على أخته آمال زوجة علي بك. وفي الحقيقة المسرحية أن آمال لم تكن أخت محمد أبوالذهب، لكنها كانت أخت مراد بك (أحد أتباع علي بك الكبير) الذي أحبها ولم يكن يعرف أنها أخته، ولا هي تعرف أنه أخوها، سوى قرب نهاية المسرحية، وقبل أن يموت أبوهما (مصطفى اليسرجي) الذي فشا إليهما السر بعد أن باعهما في سوق النخاسة.

لقد كتب شوقي كل أنواع المسرح، كتب المأساة ممثلة في: مصرع كليوباترا، ومجنون ليلى، وعنترة، وقمبيز، وعلي بك الكبير، وكتب الملهاة ممثلة في الست هدى والبخيلة، وكتب المسرحية النثرية ممثلة في أميرة الأندلس.

وقد دفع شوقي إلى ذلك أنه أراد أن يثبت قدرته على الكتابة المسرحية بمختلف أنواعها، بل الكتابة في مختلف الأنواع الأدبية: شعرًا ونثرًا، ففي مجال الشعر: نظم الشعر الغنائي، والتاريخي "دول العرب وعظماء الإسلام"، وفي مجال النثر كتب الرواية "لادياس أو آخر الفراعنة – دل وتيمان – ورقة الآس أو النضيرة بنت الضيزن"، (لم يذكر رواية عذراء الهند)، كما ألَّف في فن المقامة (شيطان بنتاءور أو لُبَد لقمان وهدهد سليمان) كما كتب النثر الفني في شكل المقالات أو خواطر أدبية "أسواق الذهب".

ومهما يكن من أمر "السلبيات" التي يمكن أن نحصيها على مسرح شوقي، فالذي لا شك فيه أن شوقي هو الرائد الأول الحقيقي الذي طوَّع الشعر العربي للمسرح. من هنا نجد في مسرح شوقي كل مميزات الريادة إن إيجابًا أو سلبًا، ولكن الذي لا جدال حوله أن شوقي قد استطاع أن يطوّع الفصحى، ويطورها للشعر المسرحي، والحوار المصفَّى الدال على طبيعة الموقف والشخصية في حالات كثيرة من مسرحه.

أما ما كتبه العقاد في كتابه "قمبيز في الميزان"، فالواقع أن في هذا الكتاب شيئين بالتحديد هما: محاولة التنبيه إلى بعض الأخطاء التاريخية التي تمس فيما يرى سمعة المصريين، ثم إقامة معيارية للشاعرية المبتكرة. ويريد العقاد أن يصل من النقطة الأولى إلى الطعن في وطنية شوقي لدرجة الاتهام بالخيانة وعدم فهم التاريخ، ومن الثانية إلى أن يجرح شاعرية شوقي، وأن يقول إن مسرحيته "نظم" لا شعر.

ويجب أن ننبه إلى أن بعض النقاد – ولا سيما من جيل الروَّاد – كانت أحكامهم النقدية على مسرح شوقي غير منصفة – أحيانًا، لأنهم حاولوا أن يطبقوا عليه قواعد المسرح الأوروبي، ونسوا – دون وعي – ربما، أنهم يدرسون مسرحًا عربيًّا، كتبه شاعر عربي، لجمهور عربي، تعود على تذوق الحكاية والقصة والطرب للغناء والإنشاد، لذلك يجب أن نقوّم مسرح شوقي في ضوء متطلبات الوجدان العربي، الذي ترك بصمات مشتركة على كل أشكال المسرح التي سادت في نهاية القرن الماضي (التاسع عشر) وأوائل القرن الحالي (العشرين).

لذا توقفتُ عند مسرحية "مجنون ليلى" بين الحكاية الشعبية والمسرح الشعري (موازنة بين الأصفهاني وشوقي)، وهي تعد واحدة من أهم أعمال شوقي المسرحية بعد "مصرع كليوباترا". وبحثتُ قضية التأثير والتأثر، وقد ظهر أن شوقي اعتمد اعتمادًا كبيرًا على مادة أبي الفرج الأصفهاني في كتاب "الأغاني".

لقد شغلتُ بشعر شوقي منذ وقت مبكر، أعود إليه عند الملل من الحياة ومن الأحياء، أو حين أريد اختبار مقولة أدبية تتصل بشعرنا العربي، لأني مازلت أؤكد أن شوقي الشاعر قد تحوَّل إلى (ظاهرة) فنية عامة مؤثرة في تاريخنا الأدبي الحديث، وأن لشعره الغنائي والمسرحي تأثيرات بعيدة المدى على الشعر والشعراء المعاصرين، لا في مصر وحدها، بل في كل أرجاء الوطن العربي.

إن شعر شوقي المسرحي يعد انعطافة حقيقية، ونقطة البدء في نشأة الشعر المعاصر، كما هو معروف اليوم.

ويكاد ينفرد شوقي بين شعراء الأدب العربي الحديث بأنه "ظاهرة" فريدة، لا بما في شعره من سمات فنية فحسب، وإنما أيضا بتأثيره الشديد على كثير من شعراء الوطن العربي، وبما أثار هذا الشعر من جدل وحوار بين الخصوم والأنصار، الذين كانوا على طرفي النقيض – إلى حد كبير – في تحديد مكانته الأدبية.

إن شوقي رغم أنه كان شاعرًا إحيائيًّا، فإنه يتجاوز هذه الإيحائية – كثيرًا – ليصبح شاعرًا إنسانيًّا عالميًّا، خالد التراث، متجدد العطاء، عميق الرؤية، خصب السمات. وكثيرون ممن جمعوا شعره أو دارسوه يحاولون استبعاد شعر المدح منه، وهذه وجهة نظر لا نقرُّها، وإلا أسقطنا معظم الشعر العربي، ومن هنا يجب أن نعامل شعر المدح والمناسبات في تراث شوقي بمقاييس الفن وحدها، وبنفس المعيار المتبع في التراث الشعري.

وهناك ناحية شبه مجهولة في تراث شوقي، وهي شعره في الحيوان الذي كُتب في شكل قصصي / رمزي. ومع أن هذا الشعر قد كتبه شوقي للأطفال، إلا أن ذلك لا ينفي ما به من قوة وثراء. وشوقي متأثر في هذه الأشعار بالشاعر الفرنسي لا فُونتين، وإن كان هذا لا ينفي استلهامه أيضا لقصص "كليلة ودمنة" التي ترجمها ابن المقفع.

ورغم محافظته الشديدة لمحاولات تطوير "الأغنية"، فقد استجاب شوقي لكتابة الأغاني التي تحتفظ بقدر من السمو الفني الذي نجده في شعر الغزل عنده، على الرغم من لغتها العامية، أي أن المبنى كان عاميا، لكن المعنى ظل محلقًا في عالم شعره الفصيح، لذلك وجدناه يورد بعض الصور والمفردات الفصيحة في هذه الأشعار العامية. ومع هذا فإن الإطار العام لمجمل أغاني شوقي يقترب من بعض سمات الشعر الرومانسي سواء من حيث التعبير عن الذات، أو العناية بثراء الإيقاع، أو من حيث توظيف بعض مفردات المعجم الشعري الرومانسي على مستوى الصورة والكلمة.

نتيجة لكل هذا نرى أن شعره العامي لا يقل – إن لم يتفوق أحيانًا – على بعض شعره الفصيح في مجال الغزل، وذلك ما يجعلنا نأسف على قلة تراث شوقي في مجال "الأغنية" – ليت شوقي قدَّم المزيد – ولكن هل تنفع شيئًا ليت؟