عبدالهادي الإدريسي يؤكد أن المصطلح أبرز تحديات الترجمة العلمية

كل ما يكتبه الناس يستحق أن يترجم إلى كل لغات الناس.
الترجمة عيال على الكتابة
لا تواصل دون ترجمة

على الرغم من كونه شاعرا ويترجم الشعر لكن أغلب ترجمات المترجم المغربي عبدالهادي الإدريسي غلب عليها العلم والفلسفة، فقد اشتغل بالأساس على أعمال المفكر العربي الراحل محمد عابد الجابري، الذي ترجم له ما يزيد على عشرة مؤلفات، حاز أحدها، وهو كتاب "العقل السياسي العربي" على جائزة ابن خلدون - سنغور للترجمة في طبعتها الأولى (أبوظبي، 2008). 
وترجم لمشروع "كلمة" التابع لدائرة الثقافة والسياحة بأبوظبي عددا من الكتب منها كتاب "الطاقات المتجددة" للفرنسي جاك فيرنيي، "التفاحة والذرة: اثنتا عشرة حكاية من الفيزياء المعاصرة" لسبستيان باليبار، وشارك في ترجمة سلسلة الفلاسفة الصغار التي تتألف من تسعة كتب "يوم ساخن في حياة البروفيسور كانط"، و"عفريت السيد ديكارت" و"لايبنتز وأفضل العوالم الممكنة"، و"موت سقراط" لجان بول مونجان، "إشراقات ألبرت أينشتاين" لفردريك مولرو، "ثورة الفيلسوف أبتكيتت" و"ديوجينوس الرجل الكلب" ليان مارشان، "لاو تسو أو طريق التنين" لميريام هنك، "موافقة بول ريكور" لأوليفييه آبيل. 
التقينا الإدريسي على هامش مؤتمر أبوظبي الدولي للترجمة في نسخته السادسة التي أقيمت ضمن فعاليات معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2018، وكان لنا معه هذا الحوار.
بداية لفت الإدريسي إلى أن أول تجربة له في الترجمة كانت في أواسط ثمانينيات القرن الماضي، يوم جاءني صديق ينتمي لمنظمة "إلى الأمام" المحظورة آنذاك يطلب مني أن أترجم له ولرفاقه كتابا لمؤسس المنظمة إبراهام السرفاتي الذي كان حينها في السجن. 
وقد ترجمت الكتاب الذي أذكر أنه كان صغيرا من حوالي مائة وعشرين صفحة، فلما انتهيت منه اكتشفت أن في داخلي مترجما خبيئا. واكتشفت كذلك مدى جهلي باللغة العربية، فأقبلت على تعلمها حتى تملكت منها ما استطعت، وكان في ذلك بداية لمغامرة دامت لما يزيد على ثلاثين سنة، أتيح لي خلالها الانكباب على ترجمة مواضيع مختلفة كاختلاف موضوع الطاقة النووية عن موضوع التطهير الصلب والسائل.
ورأى أن أبرز تحد يواجه المترجم كما يواجه الصحافي والكاتب في بلادنا هو ندرة القراء إن لم نقل غيابهم التام. فالبضاعة لا بد لها من مقتنٍ وإلا بارت وكسدت. ونحن في عالمنا العربي نكاد نكتب لأنفسنا وأنفسنا فحسب، فكأننا، مؤلفين ومترجمين وصحافيين، نعيش في قوقعة معزولة، بحكم أنْ لا أحد يجد في نفسه نزوعا إلى دخول عالمنا ومشاركتنا همومنا وأفراحنا ومقاسمتنا ما نجتهد في كتابته وترجمته ونشره.
أما السبيل لمعالجة كل هذا فيتمثل في كلمة واحدة لا ثاني لها: التعليم. فيوم ينهض التعليم في أقطارنا ويصير عندنا متعلمون حقيقيون لا أميين ثقافيين، يومها ستكون النهضة شيئا لا أيسر منه ولا أسهل.
لكننا للأسف في العالم العربي نهتم ببناء العمارات الباذخة والأسواق الرحبة والقطارات فائقة السرعة، وننسى الإنسان، الذي هو عماد كل شيء. ويوم نبدأ في بناء الإنسان ستختفي كل العوائق من تلقاء نفسها.
أما أبرز التحديات التي تواجه ترجمة الكتب العلمية في مختلف العلوم من الطب إلى النووي.. إلخ، فرأى الإدريسي أن هناك تحديا واحدا لا غير، هو المتمثل في المصطلح. أما في ما عدا ذلك فإن اللغة العربية، مقارنة مع الفرنسية التي أتقنها شخصيا بحكم طول العشرة، أقدَرُ على التعبير الدقيق وعلى صياغة الفكرة المعقدة مهما بلغت درجة تعقيدها. 
ما ينقصنا هو بعض الرغبة في العمل الجاد وكذا التواصل بين الهيئات المعنية بالموضوع (في حال وجودها) كي يكون هناك تنسيق، وكي نتفادى الوفرة الزائدة التي هي كالندرة سواء بسواء في إساءتها للمتعلم وزرعها العوائق في طريقه.
وأكد الإدريسي أنه لا يعتقد أن هناك عملا لا يستحق الترجمة ولا أن هناك شروطا ينبغي توفرها في نص مكتوب حتى يصير مستحقا للترجمة. فكل ما يكتبه الناس يستحق أن يترجم إلى كل لغات الناس. ليس هناك في نظري من نص تافه ولا فارغ، وحتى لو كان فإن التفاهة والفراغ قد تجد فيهما أحيانا ما لا تجده في نص متعجرف يعييك فهمه ويحبطك تعقيده المصنوع لا المطبوع. وقد قالوا قديما: 
الشعراء فاعلمنَّ أربعة
فشاعرٌ يجري ولا يُجرى معه
وشاعر يخوض وسْط المعمعة
وشاعر من حقه أن تسمعه
وشاعر لا تستحيي أن تصفعه.
فحتى هذا الذي لا يستحيي المرء أن يصفعه يستحق شعره أن يترجم، ولو على الأقل ليعرف منه المتعلم ما رديءُ الشعر بعد إذ عرف جَيِّدَه. 
وعلى هذا فقِس كل ما بقي.
وأشار الإدريسي إلى أن المترجم مدعو طوعا إلى ترجمة بعض الأعمال الأدبية، كمبادرة منه للإسهام في الشأن الثقافي، لكن لا ينبغي أن ننسى أن المترجم هو أيضا إنسان ذو هموم وحاجات مادية ومسؤوليات تجاه أهل وأسرة وأطفال، وهذا يتطلب منه السعي للرزق كباقي الخلق، فتجده يترجم نصا ليس يحبه ولا هو يرى له فائدة، ويهمل آخر يعشقه ويراه أكثر نفعا، وما بيده في الأمر خيار. لكنه لو كُفِيَ شر الحاجة فنعم، يكون من واجبه حينها أن يترجم تطوعا كل ما يتوسم فيه فائدة للناس وللحركة الثقافية والفكرية على الخصوص. وبين هذه وتلك، فمن تطوع خيرا فخير له.
وأكد أن الكتب التي تناقش أو ترصد وتحلل ظاهرة جماعات وتنظيمات الاسلام السياسي المتطرف والتكفيري منها والارهابي تستحوذ جل أعمال المترجمين في الكثير من دور النشر الخاصة حيث تلقى إقبالا ورواجا كبيرا. 
وأضاف "ترجمت شخصيا ما لا يقل عن أربعة كتب في السنتين المنصرمتين يدور الكلام فيها على هذا الموضوع. وأرى أن السبب تجاري بحت. فدار النشر متى كانت مؤسسة خاصة إنما تشتغل بمنطق الربح والخسارة، ومعلوم أن القارئ الغربي شغوف اليوم بمعرفة كل ما يتعلق بهذا الموضوع، بسبب ما أصبحت بلاده تعانيه من ضربات الإرهاب والتطرف، كما أن القارئ العربي (النادر طبعا) مهتم بفهم ما يجري وكذا بسماع وجهة نظر الغربيين في هذه الظاهرة. لذلك تبادر دور النشر التجارية إلى العمل على ترجمة النصوص المتعلقة بهذا المجال. وقد أثر ذلك على رواج ترجمات أدبية سواء سردية أو شعرية أو نقدية نظرية وتطبيقية نظرا لطغيان موضوع الإرهاب على غيره من المواضيع، سواء في الكتابة والتأليف أو في الترجمة.  
وما الترجمة في نهاية المطاف إلا عيال على الكتابة، لا وجود لها إلا بها. 
ونبه الإدريسي إلى تأثر حركة الترجمة بأزمة الثقافة عامة وتراجع دورها وتراجع الاهتمام بها من قبل القارئ، وقال "ما الترجمة كما قلنا إلا عائل على التأليف. ومتى أصاب المنبعَ الشحُّ فلا تنتظرنَّ من النهر وفرةَ ماء. 
أضف إلى ذلك أن وسائل الاتصال الحديثة كثيرا ما يساء استعمالها في أوساط المواطنين عندنا، فلا تكاد تجد من يستعملها لما تتيحه له من بحث وتعلم واستكشاف، لا بل إن أغلبنا يتخذها وسيلة للهو والترفيه بل وأحيانا للإساءة سواء إلى القيم أو  حتى إلى المعرفة ذاتها.
وشدد الإدريسي أن أول شروط التعايش هو التفاهم، ولا تفاهم دون تواصل، ولا تواصل دون ترجمة متى كانت الألسن مختلفة. وهنا يظهر الدور الخطير الذي يمكن أن تضطلع به الترجمة في إقامة جسور التفاهم أو قطعها. وهو شيء ينطبق على علاقتنا بالغرب، خصوصا في ظل هذه الظروف الملتبسة وهذه الحوادث المتسارعة، وهذا الشرخ الذي يزداد في كل يوم عمقا بين عالمنا العربي الإسلامي وبين بقية العالم، والغرب منه على الخصوص. غير أن هذه العلاقة صارت للأسف تنصب أكثر فأكثر على ما نختلف فيه، أو على الأقل على ما لا ننظر إليه بالعين نفسها، عوض أن نهتم بما يجمعنا كبشر يحتاج كل منا إلى ما لدى الآخر، وهي شروخ تمتد للأسف حتى أعماق علاقاتنا بعضا ببعض كما ترون.
وأوضح أن موقع الترجمة في عالمنا العربي هو ذاته الذي تحتله الكتابة والتأليف والثقافة على وجه العموم، موقع الشأن الهامشي الذي لا يرى فيه أهل الحل والعقد منا فائدة، لا بل لعلهم يرون فيه خطرا ينبغي اتقاؤه وشرا يجب اجتنابه وبابا لا بد من الاجتهاد في إغلاقه. صحيح أن هناك محاولات وجهودا مشكورة تبذل من أجل النهوض بالشأن الثقافي، نذكر على رأسها ما تقوم به دار "كلمة" الرائدة ومن ورائها دائرة السياحة والثقافة في أبوظبي الشقيقة، والمركز القومي للترجمة في أرض الكنانة من عمل مشكور، غير أن هذا لا يُنتظر منه أن يحل سوى الشق الأصغر من المشكلة. أما شقها الأكبر فهو القارئ. ومن يطلع على الإحصائيات المخيفة المتصلة بمعدل ساعات القراءة عند المواطن العربي يدرك فداحة الوضع. 
يجب علينا ابتكار وسائل لحمل الناس على القراءة، من خلال تيسير وصول الكتب للقراء وتنظيم تظاهرات لإفشاء فعل القراءة بين الناس. أما والوضع على ما هو عليه فإن أعضاء "المجتمع القارئ" الصغير في بلادنا سيظلون كما الشأن اليوم يكتبون لأنفسهم ويكتب بعضهم لبعض.