علي شريعتي المفكّر والإنسان

لقد أدرك المفكّر الإيراني الراحل أنّ الحقيقة بنت البحث وأن العقل والوعي الاجتماعي كفيلان بالوصول إلى الحقيقة على الرغم من نسبيتها فكان له أنْ يصدع بالمختلف من آراء لا تنسجم وتفكير أحادي يمثّل مرتكزات هذه الجماعة أو تلك دينيةً كانت أو ثقافية أو سياسية.
د. وسام حسين العبيدي
بغداد

في الحديث عن المفكّر الإيراني الراحل الدكتور علي شريعتي، لذّةٌ لا يتحسّس طعمها إلا من تلمّس الجوانب المُشرقة في الحضارة الإنسانية، تلك الحضارة التي قامت على أكتاف المُصلحين من دعاة الفكر الإنساني، الذين خرجوا على المألوف، وأبدعوا في أفكارهم، واستلهموا كل ما يمكن أن يبني حياتهم بشكلٍ أفضل، ويمدّهم بالأمل في مواصلة الطريق، والمفكر شريعتي أحد هؤلاء العظام، الذين لم يقف عند حدّ المذهب بخاصة أو الدين بعامة أو القومية أو التوجّه الفكري الآيديولوجي، بما لهذه العناوين من ثقلها الرمزي، وأثرها في خندقة الجماعات، وتشظّي الانتماءات بما يؤدي بصاحبها إلى دوغمائية مقيتة لا تُنتج غير فكرٍ أحادي يقرأ الأحداث سواءً أكانت تدور في زمانه أم في التاريخ، من زاوية الجهة التي ينتمي إليها فحسب، ويوصد كل بابٍ آخر يمكن له أن يقرأ الأحداث عن طريقه.. ومن هنا كانت الشخصية الفذّة للمفكر علي شريعتي أنْ تثبت حضورها المختلف في عصرها، وأن تجذب الآلاف من المريدين ممّن تعطّش لفكره، وفي الوقت نفسه كان لذلك الخروج الواعي على تلك الأنساق، أنْ يأخذ ضريبته بكلِّ ألمٍ وبكلّ أنواع الظلم الذي مُورس عليه من أتباع تلك التوجّهات، ممّن كان لهم الأثر الكارثي في تضليل الرأي العام، وتحريك العامة من الناس لأن يلوكوا بكل التهم الباطلة بحق هذا الرجل الذي أبى أنْ يكون نسخةً مكرّرةً لآخرين، فكانت الاتّهامات تتقاطر عليه من كل الاتجاهات المتصارعة فيما بينها، لكنّها لما تشتركُ فيه من "دوغمائي" كان لها أنْ تتوحّد في شريعتي الخارج عن تلك الخنادق، ولم تتورّع عن القدح به إنسانًا أو مفكّرًا، فكان بحق (مجمع الأضداد) في تنضيد الأوصاف السلبية التي يستحيل اجتماعها في شخصٍ واحد، وهذا ما يكشف جهل أولئك الخصوم ناهيك عن عدم إنصافهم وتحلّيهم بالموضوعية في حال الاختلاف الفكري، ولعل ثمة شاهدًا في التراث، نستحضره بهذا الصدد، فلقد نقلت بعض الكتب، "أن رجلاً من العامة بمدينة السلام رفع إلى بعض الولاة الطالبين لأصحاب الكلام عَلَى جار له أنه يتزندق، فسأله الوالي عن مذهب الرجل، فقال: إنه مُرْجئٌ قَدَرِيّ ناصبي رافضي، فلما قصهُ عن ذلك قال: إنه يبغض معاوية بن الخطاب الذي قاتل علَيّ بن العاص، فقال له الوالي: ما أدري عَلَى أي شيء أحسدك: أعلى علمك بالمقالات، أو على بصرك بالأنساب؟" فكل صفةٍ من هذه الصفات، يستحيل اجتماعها مع الأخرى في شخص واحد، وهكذا كان حال شريعتي فهو "الناصبي" أو "الزنديق" أو "المُلحد" في نظر متعصّبي "الشيعة" وهو "الرافضي" في نظر "الوهّابية" وهو "الماركسي" في نظر خصوم الماركسية، و"الرأسمالي المتغربن" في نظر الماركسيين..!!  هذا لأنه لم يكن تبعًا لأحد، ولم يطوِ كشحًا عن جهة من دون أخرى بالمطلق، وكان لا يخشى جهةً فينزوي عنها، وينضوي تحت جناح أخرى، بل كان يقرأ للجميع، ويأخذ ما ينسجم ويرى ما هو الأفضل، فيأخذ منه، عملاً بالحكمة: "لا تنظر إلى من قال بل إلى ما قيل" وليس نهج القرآن الكريم، ببعيدٍ عن هذه الحكمة، وإلا فقوله تعالى: "فَبشّر عبادِ الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه" دليلٌ على تحرّي الحكمة، وضرورة الاطّلاع على ما لدى الجميع، وأخذ الأفضل، وهكذا كان نهج كبار علماء الإسلام على مدى القرون السابقة، ممّن ازدهر على أياديهم الفكر الإسلامي بخاصة، والمعارف الإنسانية بعامة، وكان لشريعتي أنْ يكون على نهجهم، فضلاً عمّا كان عليه من "روحٍ مستقصيةٍ شكّاكة منذ بداية شبابه وأوائل عهده بالدراسة والتحصيل العلمي. كان يشك بكل شيء، حتى بدينه، فقد كان يشك بالدين السائد بين الناس، أي بذلك الإسلام الممسوخـ ذلك الإسلام الذي حُوِّلَ إلى دكّان للارتزاق، ووسيلة للاحتراف وتربية "المُريدين" كان لا بدّ لشابٍ واعٍ مثل شريعتي أن يبدأ بالشكّ، لكنه لم يبق أسير الشك" [من كلام آية الله محمود الطالقاني] وفي السياق نفسه يذكر الطالقاني– أحد رموز الثورة الإسلامية في إيران- أنه كان دائمًا يستمع للآخرين، ويفكر في القول ليتبع أحسنه، كان يأخذ ما هو الأحسن من كل مدرسة وفكر: مدرسة اليسار، ومدرسة اليمين، مدرسة الإسلام، وقد قال لي مرة: إنني آخذ جملة أو فكرة من كتاب عاديٍّ جدًّا، كتاب ديني شائع مثلاً، فأُبرِزُ وأطوِّرُ ما لم تقع عليه أعين القرّاء..

         لقد أدرك شريعتي أنّ الحقيقة بنت البحث، وأن العقل والوعي الاجتماعي كفيلان بالوصول إلى الحقيقة على الرغم من نسبيتها، فكان له أنْ يصدع بالمختلف من الآراء التي لا تنسجم والتفكير الأحادي الذي يمثّل مرتكزات هذه الجماعة أو تلك دينيةً كانت أو ثقافية أو سياسية، فكان مُدركًا حجم الحِراك الفكري الذي يقوم به في مجتمعٍ غاطسٍ بالسرديّات الكبرى التي تعزّز هويته بين الجماعات الأخرى، يؤكّد لنا ذلك ما ذكره في مقدمة كتابه المثير "التشيع العلوي والتشيع الصفوي" من نصيحة أحدهم أسداها إليه، وفحواها: أنه ينبغي عليه الانتباه إلى فحوى ما يقول والالتزام بعدم إثارة استياء أحد، ويذكر له – في مقام الاتّعاظ والتأسّي- أن أحد الخطباء مارس مهنة الخطابة لمدة ثلاثين عاما دون أن ينتقده أحد طوال هذه الفترة، بينما ما أنْ أتكلم أنا إذا بسهام النقد والاعتراض تستهدفني من كل حدبٍ وصوبٍ وربّما جاءتني من مواقع متضادّة وتقف فيما بينها على طرفي نقيض..!! وينتقد شريعتي هذا الخطيب "المحبوب" عند الجميع، بأنه يُداري الجميع، بقوله: "إذا كان ثمة من يتكلم ثلاثين سنة دون أن يُوجّه إليه نقدٌ من أحد، فالسبب في الحقيقة يرجع إلى هذا الإنسان تكلم ثلاثين سنة دون أنْ يُوصل سامعيه إلى أي نتيجة! والواقع أن أحد الفوارق بين التشيع العلوي والصفوي تكمن في هذا المجال وهو فرقٌ رئيسيٌّ بلا شك!"..

وفي مقطع آخر، ينقل لنا ما يقوله هذا الناصح الشفيق: "لا تُصرِّح بكل العوامل التي تقف وراء تعاسة المجتمع والدين. ينبغي عليك أن تُراعي مصالح أصحاب النفوذ وحدود صلاحياتهم، هذه الأمور ليست صعبة عليك، كل ما تحتاجه هو قليلٌ من النضج والنباهة، هؤلاء هم الذين أثاروا كل هذا الضجيج ضدّك: وا إسلاماه.. وا إماماه! وزّعوا المنشورات ولفّقوا التهم ضدّك وحرّفوا أقوالك أو نقلوها مبتورةً ليُألّبوا ضدّك العوام، وقد رأيتَ أنّهم مستعدّون لفعل أي شيء يُحقق لهم أهدافهم ومآربهم بمجرّد أنْ يشعروا بالخطر على مصالحهم وأنّك تُزاحمهم في مناطق نفوذهم" وهذا ما لم يكن عليه شريعتي، بل كان مستلهمًا نهج الحكماء من الأنبياء والأوصياء وغيرهم من العقلاء، في ضرورة طرح الرأي الصواب حتى وإن لم يكن مطابقًا لتوجّهات هذه الجماعة أو تلك، حتى وإن لقِيَ من هؤلاء أو أولئك ما يشيب له الرأس من التهم الباطلة والسلوكيات غير المنضبطة التي راح ضحيتها الأفذاذ من المفكّرين والعلماء المنتجين والمبدعين في مختلف العلوم على مدى العصور.

         وأخيرًا يبقى لهذا الرجل وهجه الفكري؛ لأنّه انطلق من الإنسان وعمل من أجل الارتقاءبالإنسانية، فقرأ الدين من هذه الزاوية الرحيبة الأفق، ولم يكن ناقمًا على جهة أو راضيا على أخرى، إلا بمقدار التصاقها بهموم الإنسان ورفع الظلم عن الإنسان، وفي هذا كان له أنْ ينتقد المؤسسة الدينية الشيعية من هذه الزاوية، ففي ما نقله السيد علي الخامنائي من حوارٍ جرى بين شريعتي وجلال آل أحمد – أحد مفكّري إيران وأدبائها الكبار آنذاك- قال في معرض سؤال وجّهه الأخير: "لماذا تنتقد الحوزة العلمية بكثرة ولا تنتقد مثقفينا.. هلمّ وانتقد مثقفينا أيضًا.. أجاب المرحوم شريعتي بجوابٍ – والنقل حرفيًّا من كلام السيد الخامنائي- يمكن أنْ نتلمّس من خلاله حقيقة موقفه في التمييز بين "الروحانيين" كموقع وحالة، و"الروحانيين: علماء الدين" كأشخاص، قال: إن سبب تأكيدي في نقد الحوزة العلمية، يعود إلى أننا ننتظر الكثير منها، بينما لا ننتظر شيئًا من نُخَب مثقفة وُلِدت في أحضان الثقافة الغربية. الحوزة العلمية قاعدة أصيلة نأمل منها أن تُقدِّم الكثير، وحين تتخلّفُ عن العطاء في مقام العمل فإننا نمارس النقد" وممارسة النقد كانت الخطوة العملية التي ميّزت مشروع المفكر شريعتي سواء أكانت في قراءته المختلفة للتاريخ الإسلامي بوعي ودراية اجتماعية تستلهم النافع والمفيد الذي يصب في مصلحة الأمة الإسلامية من دون تمييز طائفي لمذهب من دون آخر، أو في قراءته المشهد الاجتماعي والسياسي المعاصر برؤية واقعية تطمح لأن تكون الأمة الإسلامية في مصافِّ الأمم المتقدِّمة في جميع مجالات الحياة، وغير منكفئة على الجانب الديني فحسب، ولم يكن نقد الدين لديه إلا للمظاهر البعيدة عن جوهر الدين، ولمن عمل على إظهار الدين بتلك الصورة البعيدة عن جوهره، وليس نقد المتظاهرين بسيماء الدين، ببدعٍ لدى شريعتي، فلقد سبقه رعيلٌ من المصلحين، كما لحقه أيضًا ممّن يمثّل المسلمين إلى يومنا هذا، وإلا ما تصريح السيد الخامنائي أمام مسؤولي وكوادر الحكومة في هذا الشأن، بقوله: "إنَّ خطرَ التحجّر والروح الرجعيّة بين العلماء أو توجّههم إلى منافعهم الشخصية  وتعلّق قلوبهم بالدنيا وبهارجها المادية واستغلال المكانة الاجتماعية.. هذا الخطر لا يقل عن خطر الهجوم المعادي، بل يزيد عليه أضعافًا مُضاعفة" [المصدر: الشهيد الصدر بين أزمة التأريخ وذمّة المؤرخين، مختار الأسدي: 49- 50] إلا تأكيد لنزعة النقد البنّاء داخل المؤسسة الدينية نفسها. وأنَّ ما أملاه شريعتي من ملاحظات نقدية في مجمل مؤلفاته وخطاباته، على سلوكيات بعض من لم يكن أهلاً لتمثيل الدين، ليست إلا من باب الدفاع عن الصورة النقية التي ينبغي أن يكون عليها كل دين يدعو إلى الإنسان والإنسانية، ويحث على الإصلاح والتسامح والخير بين الناس..